لا، الصبر في القرآن يعني الثبات والمثابرة والجهد الفعال في سبيل الحق ومواجهة التحديات، وقد يتضمن العمل والقول، وليس مجرد الصمت أو السلبية.
إن فهم مفهوم «الصبر» في القرآن الكريم هو حجر الزاوية في مسيرة الحياة الإيمانية. غالبًا ما يتم الخلط بين الصبر في الثقافة العامة والصمت أو السلبية أو اللامبالاة. ومع ذلك، فإن الدراسة العميقة لتعاليم القرآن تكشف أن هذا التفسير هو فهم ناقص ومحدود لهذه الفضيلة الإلهية العظيمة. القرآن الكريم لا يعتبر الصبر حالة سلبية، بل يعتبره فضيلة فعالة وديناميكية ومنتجة تتطلب الثبات، والمثابرة، والجهد، وضبط النفس، وأحيانًا حتى المبادرة والجهر بالقول. الصبر لغةً يعني حبس النفس وضبطها؛ أي أن الإنسان يتحكم بنفسه أمام الشهوات النفسية والعوائق التي تحول بينه وبين طريق الحق. هذا التعريف الأولي نفسه يشير إلى أن الصبر فعل إرادي ونشط، وليس مجرد عدم رد فعل. في القرآن، ورد الصبر في سياقات مختلفة، كل منها يوضح جانبًا من هذا المعنى الديناميكي. وبشكل عام، يقسم المفسرون وعلماء الأخلاق الصبر إلى ثلاثة أنواع رئيسية، لا يعني أي منها بالضرورة الصمت المطلق: 1. الصبر على الطاعة (الثبات في أداء الأوامر الإلهية): يتطلب هذا النوع من الصبر إرادة قوية وجهدًا مستمرًا لأداء العبادات والفرائض الدينية، حتى عندما تبدو صعبة أو مرهقة. على سبيل المثال، الاستيقاظ لصلاة الفجر، وصيام الأيام الطويلة والحارة، أو دفع الزكاة والصدقات التي قد تكون ثقيلة على النفس، كلها تتطلب صبرًا. هذه أفعال نشطة لا مكان فيها للصمت أو الخمول. فالشخص الصبور هو الذي، على الرغم من رغبته في الراحة أو الكسل، يجبر نفسه على أداء الواجبات الدينية، وهذا يستلزم الثبات في العمل. 2. الصبر عن المعصية (ضبط النفس أمام الذنوب): هذا النوع من الصبر يعني مقاومة الإغراءات والشهوات والدوافع الشيطانية التي تدفع الإنسان إلى ارتكاب الذنوب. هذه معركة داخلية نشطة. عندما يجد الإنسان نفسه في موقف يمكن أن يقع فيه في الخطيئة، فإن صبره يعني مقاومة فعالة لتلك الخطيئة، وليس مجرد السكوت عنها. على سبيل المثال، في مواجهة الغيبة أو الكذب، يعني الصبر عدم المشاركة فيها وحتى النهي عن المنكر، وهذا قد يكون مصحوبًا بالكلام وليس الصمت. التحكم في اللسان والسلوك أمام الاستفزازات هو أيضًا نوع من الصبر، ويعني الاختيار الواعي للصمت عن الكلام غير اللائق، وليس الصمت العام. 3. الصبر على المصيبة (الثبات أمام البلايا والصعوبات): هذا الجانب من الصبر هو ما يتم الخلط بينه وبين الصمت في كثير من الأحيان. الصبر على المصيبة يعني ألا يجزع الإنسان ولا يشكو لخلقه، وأن يحافظ على إيمانه في مواجهة الفقدان، أو الأمراض، أو المشاكل المالية، أو أي صعوبة. لكن هذا لا يعني أبدًا الخمول والاستسلام التام. فالشخص الصبور، مع توكله على الله وقبوله لقضاء الله وقدره، يسعى أيضًا لإيجاد الحلول ويبذل جهده لرفع المشكلة. على سبيل المثال، النبي أيوب عليه السلام، على الرغم من صبره الفريد على المرض، فقد رفع يديه بالدعاء وطلب الشفاء من الله. وهذا الدعاء بحد ذاته فعل نشط. كذلك، في كثير من الحالات، لا يعني الصبر على الظلم عدم مواجهة الظالم، بل يعني الثبات في طريق الكفاح وعدم اليأس أو القنوط. القرآن الكريم يشجع المؤمنين على الثبات في طريق الجهاد ومحاربة الباطل، وهذا الثبات هو عين الصبر ويستلزم الفعل والقول الحازم. الآيات القرآنية تؤكد هذا الرأي النشط للصبر. ففي الآية 153 من سورة البقرة جاء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. في هذه الآية، ارتبط الصبر بالصلاة (وهي عبادة فعلية) وذُكر كوسيلة للاستعانة. وهذا يدل على أن الصبر أداة فعالة لحل المشكلات ومواجهة التحديات. وكذلك، نقرأ في الآية 112 من سورة هود: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾. الاستقامة والثبات المذكوران في هذه الآية هما من الجوانب الهامة للصبر، ويعنيان الاستمرار الفعال في طريق الحق، دون تجاوز الحدود الإلهية. وهذا أيضًا يدل على العمل والثبات النشط، وليس الصمت. أخيرًا، في الآية 135 من سورة النساء، يتم التأكيد على إقامة القسط (العدل)، وهو عمل اجتماعي في حد ذاته وقد يتطلب الجهر بالحق والوقوف في وجه الظلم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾. هنا، يعني الصبر الثبات في طريق العدل، حتى في مواجهة الضغوط والمصالح الشخصية، مما يستلزم الفعل والإدلاء بالشهادة. لذلك، يمكن استنتاج أن الصبر بمعناه القرآني الشامل، هو فضيلة متعددة الأوجه تشمل ضبط النفس، والثبات على طريق الحق، والمثابرة في مواجهة الصعوبات، والجهد المستمر لتحقيق الأهداف الإلهية. هذه الفضيلة تتطلب أحيانًا الصمت عن الكلام الباطل أو غير المجدي (مثل التحكم في اللسان عن الغيبة)، لكنها لا تعني أبدًا الصمت في وجه الظلم، أو الخمول في أداء الواجبات، أو السلبية في مواجهة المشاكل. الصبر قوة تمكن الإنسان من الموازنة بحكمة وبصيرة بين الصمت المناسب والكلام في وقته، وبين العمل الضروري وتجنب العجلة. هذه الفضيلة تجسد قمة فاعلية المؤمن ومسؤوليته تجاه نفسه، مجتمعه، وربه.
في قديم الزمان، كان هناك تاجر حكيم وتقي يجلس في سوق صاخب. جاء إليه صديق له يعاني من المشاكل ويشعر بالعجز، فتنهد تنهيدة عميقة وقال: «يا صديقي، لقد أنهكتني متاعب الحياة، وأتمنى أن أجلس كجبل صامت وألتزم الصبر.» نظر إليه التاجر بلطف وقال: «يا صديقي العزيز، الصبر فضيلة، ولكن ليس صبر الجبل الصامت! الجبل قد يكون ثابتًا، ولكنه لا ينمو ولا يجري الماء. الصبر الحقيقي هو أن تكون كنهرٍ يجري؛ تمر بحكمة عبر الصخور، وتتجاوز العقبات، وتمنح الحياة حيثما تذهب. الصبر ليس مجرد جلوس وصمت. أحيانًا يجب أن تنطق بالحق، وأحيانًا يجب أن تحل العقد بيديك، ودائمًا يجب أن تتوكل على الله بقلبك وتتخذ الخطوات. كن كالبذرة التي بصبرها في جوف الأرض، تمد جذورها وتتحول في النهاية إلى شجرة مثمرة، لا كحجر يبقى ساكنًا. يجب أن يدفعك صبرك نحو العمل والتغيير، لا نحو العزلة والصمت.» عندما سمع صديق التاجر هذه الكلمات الحكيمة، لمعت عيناه. فهم أن الصبر ليس عائقًا للعمل، بل هو قوته الدافعة. ومنذ ذلك اليوم، بصبره وثباته، لم يتغلب على مشاكله فحسب، بل وجد أيضًا، من خلال الجهد والمثابرة، طريقة لمساعدة الآخرين.