نعم، السكينة القلبية المستقرة تتحقق من خلال الإيمان الحقيقي بالله، لأن ذكر الله تطمئن به القلوب، والتوكل عليه يحرر من القلق. هذا السلام الداخلي يمنح الثبات والهدوء حتى في مواجهة تحديات الحياة.
هل السلام الدائم ممكن بالإيمان؟ هذا سؤال عميق وجوهري يشغل قلوب وعقول الكثير من الأفراد. في سعيهم للسكينة، سلك البشر عبر التاريخ مسارات متنوعة، من الملذات المادية إلى المذاهب الفلسفية والصوفية. لكن من منظور القرآن الكريم، الإجابة على هذا السؤال واضحة ومليئة بالأمل: نعم، السكينة القلبية المستقرة والدائمة تتحقق من خلال الإيمان الحقيقي، وإن كانت كلمة "دائمة" لا تعني غياب أي تحديات أو صعوبات في الحياة الدنيا، بل تعني الثبات والاستقرار الداخلي في مواجهة الاضطرابات الخارجية. يؤكد القرآن صراحة أن القلوب تطمئن بذكر الله. وهذا ليس مجرد ادعاء، بل حقيقة مجربة لملايين المؤمنين عبر التاريخ. لفهم هذا النوع من السلام، يجب أن نلقي نظرة أعمق على مفهوم "الإيمان" في القرآن. الإيمان ليس مجرد اعتقاد ذهني بوجود الله؛ بل هو أبعد من ذلك، فهو مجموعة من المعتقدات والأعمال والحالات القلبية التي تربط الفرد بخالق الكون. هذا الاتصال هو مصدر لا ينضب للقوة والأمل والطمأنينة. عندما يؤمن الإنسان بإله عليم، قدير، حكيم، ورحيم مطلق، فإنه لا يخاف من شيء بعد ذلك. هذا الاعتقاد بأن كل ما يحدث في العالم يتم تحت الإرادة والحكمة الإلهية، وأن الخير كامن فيه، يطمئن الإنسان بأنه ليس وحيدًا حتى في أسوأ الظروف وأن لديه ملجأً قويًا. هذا الشعور بالاطمئنان يشكل أساس السلام، حيث يعلم الفرد أنه مدعوم بقوة لا متناهية. إحدى الكلمات القرآنية المفتاحية في هذا السياق هي "السكينة". السكينة تعني الطمأنينة والهدوء والوقار الذي ينزله الله على قلوب المؤمنين. هذا سلام لا يمكن بلوغه بالمنطق وحده؛ إنها هبة إلهية، في اللحظات الصعبة، تزيل القلق من القلب وتملأ مكانه بالثبات والهدوء. على سبيل المثال، يذكر القرآن أن الله أنزل السكينة على قلوب المؤمنين في المعارك ليثبتهم ولا يخافوا. هذا يدل على أن السلام النابع من الإيمان فعال حتى في ساحة المعركة وفي مواجهة الموت، مما يمكّن الأفراد من أداء واجباتهم بشجاعة وصبر. هذا النوع من السلام، على الرغم من المخاطر الخارجية، يبقى راسخًا داخل قلب المؤمن، مما يسمح له بالتقدم بقوة وثقة. عامل آخر يؤدي من خلاله الإيمان إلى السلام هو "التوكل". التوكل يعني الثقة وتفويض الأمور إلى الله بعد بذل كل الجهود الممكنة. عندما يعلم الإنسان أن مصيره في يد الله القادرة وأن الله يريد الأفضل لعباده، يتحرر من القلق بشأن المستقبل والخوف من الخسائر. هذا التحرر يرفع عبئًا ثقيلًا عن كاهل الإنسان. فمن يتوكل، يعلم أنه إذا فقد شيئًا، فكانت حكمة إلهية وراء ذلك، وإذا لم يحقق شيئًا، فبالتأكيد خيره في شيء آخر قدره الله له. هذا المنظور يمكّن الأفراد من مواجهة أحداث الحياة بالرضا والسلام، سواء كانت حلوة أو مرة. هذا القبول النشط ليس نابعًا من ضعف بل من قوة داخلية تنبع من الاتصال بالمصدر الإلهي اللانهائي. علاوة على ذلك، يلعب الإيمان بالمعاد والحياة بعد الموت دورًا حيويًا في تعزيز السلام. عندما يعلم الإنسان أن هذه الحياة الدنيا عابرة وأن هناك هدفًا أسمى يكمن وراءها، يقل ارتباطه بالدنيا وملذاتها الزائلة. ويقل القلق بشأن الفقر، والخوف من فقدان المكانة الاجتماعية، أو الحسرة على ما لم يتحقق. بدلاً من ذلك، يسعى جاهدًا لبناء حياته الأخروية من خلال الأعمال الصالحة. هذا المنظور يمنحه سلامًا لا يعتبر الموت نهاية، بل جسرًا نحو الأبدية ولقاء المحبوب الحقيقي. هذا المنظور الأوسع يقلل من الهموم الدنيوية العابرة ويسمح للفرد أن يعيش برؤية أوسع وقلب أكثر اطمئنانًا. العبادة وذكر الله أيضًا حجر الزاوية لهذا السلام الدائم. فالصلاة، والدعاء، وتلاوة القرآن، وأي شكل من أشكال ذكر الله، يصقل القلب وينقيه من صدأ الذنوب والتعلقات المادية. هذه الأعمال لا تقوي فقط صلة الفرد بالله، بل توفر أيضًا فرصة للتأمل في الذات وعظمة الخلق. اللحظات التي يتحدث فيها الإنسان سرًا مع ربه، والشعور بالحضور والقرب الإلهي، يغمسه في محيط من السكينة. يقول القرآن: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد: 28)، وهذا يعني بوضوح أن المصدر الأساسي للسكينة هو ذكر الله. يمكن أن يكون هذا الذكر في شكل صلاة، أو تسبيح ودعاء، أو حتى تفكر في آيات الله ونعمه. كل شكل من أشكال الاتصال بالخالق يدفع القلب نحو السلام ويغذيه. ومع ذلك، من المهم التأكيد على أن "السلام الدائم" لا يعني غياب المشاكل، أو الأمراض، أو الحزن في الحياة الدنيا. فالدنيا دار ابتلاء، وسيواجه البشر دائمًا تحديات. لكن السلام الذي يجلبه الإيمان هو سلام داخلي يساعد الأفراد على مواجهة هذه التحديات، بدلاً من الهروب منها. هذا السلام يشبه مرساة تحافظ على استقرار سفينة وجود الإنسان في عواصف الحياة. قد يكون المؤمن الحقيقي باكيًا، لكن قلبه مطمئن؛ قد يكون مريضًا، لكنه راضٍ بحكمة الله؛ قد يعيش الفقر، لكنه يتمتع بغنى روحي. هذا هو المعنى الحقيقي للسلام المستمد من الإيمان. هذا السلام لا ينبع من الرفاهية المادية ولا يزول مع مشاكل الدنيا، بل له جذور عميقة في الارتباط بمصدر السلام الذي لا ينضب، وهو الله. هذا السلام هو قوة مقاومة في مواجهة الصعوبات. في النهاية، يقدم الإيمان، بمعناه الحقيقي، خريطة طريق للحياة. فمع وجود هدف أسمى، وقيم ثابتة، وإرشادات إلهية لاتخاذ القرارات، تقل الحيرة والشكوك إلى أدنى حد. وهذا الوضوح في الهدف والمسار هو بحد ذاته عامل كبير في تحقيق السلام. الحياة بالإيمان هي حياة ذات معنى وهدف واتجاه. وهكذا، يجد المؤمنون، حتى وسط لهيب الأحداث، مصباح السلام ويحافظون عليه متوهجًا في قلوبهم. إذن، السلام الدائم ممكن بالإيمان؛ ولكن ليس بمعنى نفي آلام الدنيا، بل بمعنى اكتساب قوة داخلية تحافظ على الإنسان صامدًا وهادئًا في مواجهة أي شدة. إنها هبة إلهية لمن يسلم قلبه لله ويسير في سبيله.
يُقال إنه في الأزمان القديمة، كان هناك ملك لا يجد متعة في عظمة ملكه أو خزائنه المليئة، لأنه كان قلقًا باستمرار من فقدانها. ذات ليلة، مضطربًا من الأفكار، ذهب إلى الفراش لكن النوم لم يأتيه. بالقرب من القصر، سمع صوتًا عذبًا لدرويش، كان بقلب مطمئن ولسان يلهج بالذكر، يسبح بحمد ربه ويتمتع بسلام لم يجربه الملك قط. استدعى الملك الدرويش وقال: "يا درويش، بكل هذا الثراء والسلطة، لا أجد لحظة سلام، كيف تنام هانئًا مع كل هذا الفقر؟" ابتسم الدرويش وقال: "أيها الملك، طمأنينة القلب ليست بمقدار الثروة، بل بمقدار التوكل على الله. أنا أقبل ما لدي، وما ليس لدي، أعهده إليه. أنت قلق بشأن حماية ما تملك، وأنا مرتاح لأنني لا أملك شيئًا أحميه. هنا، ينبع السلام ليس من المال، بل من الحالة الروحية." تعلم الملك من كلماته وأدرك أن الكنز الحقيقي هو سلام القلب، الذي يتحقق بالإيمان والتوكل على الله، وليس بتكديس ثروات الدنيا.