لا، الدعاء لأمور الدنيا ليس مكروهًا، بل القرآن يشجع على الاعتدال وطلب الخير في كلا العالمين. المهم هو أن تكون الدنيا وسيلة للآخرة وليست الغاية النهائية والوحيدة للإنسان.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية، يُطرح موضوع الدعاء وطلب الحاجات المختلفة من الله، سواء كانت دنيوية أو أخروية، بمنظور شامل ومتوازن. خلافًا لما قد يتصوره البعض بأن الدعاء لأمور الدنيا مكروه أو غير مرغوب فيه، فإن القرآن لا يؤيد هذا الرأي على الإطلاق، بل يشجع المؤمنين في العديد من الآيات على طلب الخير والنماء في كلا العالمين. المبدأ الأساسي في هذا الصدد هو الحفاظ على التوازن والاعتدال وعدم إهمال الآخرة بسبب الدنيا. الله سبحانه وتعالى، وهو الخالق والرازق لجميع المخلوقات، قد أذن وأمر البشر بالتوجه إليه لطلب حاجاتهم. الدنيا هي ميدان اختبار ومنصة لنمو الإنسان، والحاجات المادية جزء لا يتجزأ من هذه الحياة. ولذلك، فإن طلب الرزق الحلال، والصحة، والطمأنينة، والأسرة الصالحة، والنجاحات الدنيوية المشروعة ليس مكروهًا فحسب، بل يمكن أن يُعتبر عبادة أيضًا، بشرط مراعاة الشروط وتحديد الأهداف الصحيحة. طلب البركات الدنيوية بنية خالصة وفي سبيل رضا الله هو علامة على فهم شمولية الرب والتوكل عليه في جميع جوانب الحياة. من أبرز الآيات التي تعبر عن هذه الحقيقة بوضوح هي الآية 201 من سورة البقرة. في هذه الآية، يعلمنا الله دعاء يشمل طلب "الحسنة في الدنيا" و "الحسنة في الآخرة": "وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (ومنهم من يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). تُظهر هذه الآية أن طلب الحسنة في الدنيا، أي كل أنواع الخير والنماء بما في ذلك الرخاء، والأمن، والعلم، والصحة، والحياة الطيبة، ليس مذمومًا بل هو دعاء مقبول ومؤيد إلهيًا. هذا الدعاء هو الدعاء الأشمل الذي يولي اهتمامًا لكل من الدنيا والآخرة، ويجسد التوازن بينهما. الحسنة في الدنيا تشمل كل ما يحسن حياة الإنسان في هذا العالم، أما الحسنة في الآخرة فتشمل مغفرة الله ودخول الجنة ورضوانه. هذه الآية تُبين بوضوح أن المؤمن الحقيقي يسعى دائمًا إلى السعادة الشاملة في كلا العالمين وينظر إلى الدنيا على أنها ميدان لجمع المؤن للآخرة، بدلاً من التخلي عنها كليًا أو اعتبارها هدفًا لا قيمة له. من جهة أخرى، ينتقد القرآن الكريم أولئك الذين يتمسكون بالدنيا وحدها ويكرسون كل جهدهم واهتمامهم لها. هذا الانتقاد ليس بسبب طلب الدنيا في حد ذاته، بل بسبب إهمال الهدف الرئيسي من الخلق ونسيان الآخرة. على سبيل المثال، في سورة الشورى، الآية 20، نقرأ: "مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ" (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب). هذه الآية توضح الفارق بين من جعل الآخرة هدفه الأساسي ومن تعلق بالدنيا وحدها. هذا لا يعني حرمة طلب الدنيا، بل هو تحذير من عواقب التركيز الكلي على الدنيا وإهمال الجزاءات الأخروية اللانهائية. يقول الله أنه إذا كان هدفك الأساسي هو الآخرة، فإن الدنيا ستُعطى لك بقدر كافٍ بل وأكثر، أما إذا طلبت الدنيا وحدها، فلن يكون لك نصيب في الآخرة. هذا المنظور يعلم الإنسان أن يحافظ دائمًا على الأولويات الصحيحة في الحياة وأن يعلم أن الاستثمار الحقيقي هو في أمور الآخرة التي تتسم بالبقاء والخلود. آية أخرى تؤكد هذا التوازن هي الآية 77 من سورة القصص: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين). هذه الآية لا تجيز عدم نسيان النصيب من الدنيا فحسب، بل تعتبره أمرًا طبيعيًا ومشروعًا. الدنيا وسيلة للوصول إلى الآخرة، وليست الغاية النهائية. فالصحة، والمال، والقوة، والمكانة الاجتماعية يمكن أن تكون أدوات لأداء الأعمال الصالحة، ومساعدة المحتاجين، ونشر العدل، وخدمة الدين. إذا طلب الإنسان من الله الثروة، ليس للإسراف والفساد، بل للاستخدام في سبيل الخير وعمارة الأرض، فهذا طلب محمود. تُظهر هذه الآية بوضوح أن الإسلام دين شامل يهتم بجميع أبعاد حياة الإنسان، المادية والروحية، ويرغب في سعادة البشرية وتقدمها في كلا المجالين. إذن، مفتاح فهم هذا الموضوع يكمن في "تحديد الهدف" و "طريقة الاستفادة" من نعم الدنيا. الدعاء للدنيا يكون مستحبًا عندما نرى هذه الدنيا كجسر للوصول إلى الكمال والرضا الإلهي. عندما ندعو بالصحة، نريد جسدًا سليمًا لنتمكن من العبادة بشكل أفضل وأن نكون نافعين للمجتمع. عندما ندعو بالثروة، نريد قدرة أكبر على الإنفاق في سبيل الله ومساعدة المحتاجين. عندما ندعو بالنجاح المهني، نريد أن ندير حياتنا بطرق حلال ونخدم الآخرين. هذه الأنواع من الطلبات، ليست مذمومة فحسب، بل هي دليل على بصيرة صحيحة واستخدام أمثل لفرص الدنيا للنمو الروحي والتقرب إلى الله. الدعاء للدنيا في هذا الإطار يدل على فهم عميق لفلسفة الحياة ودور الدنيا في مسيرة العبودية. من المهم ألا ننسى أبدًا أن جميع هذه النعم من الله تعالى ويجب أن تُستخدم في سبيل رضاه وخدمة الخلق. نقطة مهمة أخرى هي أن الدعاء بحد ذاته يمثل توكل الإنسان وثقته بقدرة الله ورزقه. عندما نتوجه إلى الله بكل ما نرغب فيه في حياتنا، فإننا في الواقع نقر بأنه لا توجد قوة سواه قادرة على تحقيق حاجاتنا. هذا النهج يمنع الشرك والكبرياء ويضع الإنسان على المسار الصحيح للعبودية. لذلك، فإن الدعاء للدنيا ليس مكروهًا على الإطلاق، بل هو جزء لا يتجزأ من علاقة العبد بخالقه وإظهار الحاجة والعبودية. المهم أن يكون هذا الدعاء بنية خالصة، وتوكل كامل، وفي سبيل رضا الله، وألا يلهينا عن الهدف الأساسي من الخلق، وهو العبودية والوصول إلى السعادة الأبدية. كل ما يُمنح لنا في الدنيا هو أمانة منه ويجب أن يُستخدم في سبيل رضاه. هذا التوازن الدقيق هو مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، والدعاء هو أداة قوية لتحقيق هذا التوازن.
يُروى في "گلستان" لسعدي أن ملكًا عادلاً كان لديه وزير ذكي. في أحد الأيام، رأى الملك وزيره مطأطئ الرأس وحزينًا. فسأل الملك: "أيها الوزير، ما خطبك هكذا؟" فأجاب الوزير: "أيها الملك، إنني قلق بشأن هذه الدنيا الفانية الزائلة، وأنني قد أقضي عمري كله في طلبها وأغفل عن الدار الباقية." قال الملك بابتسامة حانية: "أيها الوزير الحاذق، لقد خلق الله نعم الدنيا لراحة عباده ليستفيدوا منها ويكونوا شاكرين. وكما يقول سعدي العذب اللسان: 'من يعيش في هذا المقام، يسعى لرزقه اليومي. ولكن الحكيم هو من يجعل الدنيا وسيلة للآخرة، لا من يضحي بالآخرة من أجل الدنيا.' ثم أردف الملك قائلاً: "المهم ألا ترتبط قلبك بالدنيا ولا تعتبرها الهدف الأسمى. إذا أردت، فادعُ لقوت يومك، لصحة جسدك، لمساعدة المظلومين، لبناء المدارس والمستشفيات. كل هذه من نعم الله التي يمكن أن تقربك إلى الآخرة، بشرط أن تعلم من هو المالك الحقيقي لهذه النعم وكيف ينبغي عليك استخدامها. إذا أصبح المال والجاه والمكانة وسيلة للطاعة والخدمة، فإن دعاءك للدنيا يكون في حد ذاته عبادة." استنار الوزير من كلمات الملك الحكيم وفهم أن طلب الدنيا في حد ذاته ليس سيئًا، ولا الاستغناء عنها علامة على الكمال. بل التوازن والاستخدام الصحيح لها في سبيل رضا الله هو الحكمة الحقيقية. ومنذ ذلك الحين، كان الوزير يدعو لدنياه وآخرته، وظل شاكرًا لله تعالى.