التقوى، بمعنى خشية الله والورع، ليست مجرد فضيلة دينية بل عامل رئيسي في تحقيق الاستقرار النفسي والسلام الداخلي، لأنها تزيل الخوف والحزن وتغرس القدرة على التمييز والأمل. القرآن يؤكد صراحة أن المتقين متحررون من الهموم والأحزان، وسينعمون بحياة طيبة تؤدي إلى الاستقرار النفسي.
الرابط بين الاستقرار النفسي والتقوى في التعاليم القرآنية هو رابط عميق وأساسي تم التأكيد عليه بوضوح. التقوى، التي تعني خشية الله، وضبط النفس، والورع، والالتزام بحدود الله، ليست مجرد فضيلة دينية وأخلاقية، بل هي عامل رئيسي في تحقيق السلام الداخلي والاستقرار النفسي. وقد أشار القرآن الكريم مرارًا إلى جوانب مختلفة من هذه العلاقة، مقدمًا إياها كمبدأ أساسي لحياة صحية ومتوازنة. أول وأهم جانب في هذه العلاقة هو إزالة الخوف والحزن. الخوف من المستقبل، والقلق الدنيوي، والحزن الناتج عن الماضي أو الحاضر، هي من أكثر العوامل شيوعًا لعدم الاستقرار النفسي. يقول القرآن في آيات مثل سورة يونس، الآيتين 62 و 63: «أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ» (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون). هذه الآية تُظهر بوضوح أن التقوى لا تزيل الخوف من المستقبل فحسب، بل تُزيل الحزن من الماضي أيضًا. فالشخص التقي، بسبب توكله الكامل على الله، وإيمانه بالقدر والتدبير الإلهي، ويقينه بالجزاء الأخروي، يُسلّم همومه المادية والمعنوية لله، وهذا يقلل من الضغط النفسي الذي يواجهه. هذا اليقين بقوة الله ورحمته يخلق دعمًا نفسيًا قويًا يحافظ على استقرار الفرد في مواجهة مصاعب الحياة ونوائبها، ويمنع انهياره النفسي. فعندما يعلم الإنسان أن كل ما يصيبه هو في النهاية لخيره وصلاحه، وأن الله هو حافظه وناصره، يسود قلبه سلام عميق. جانب آخر هو وعد الله بالفرج والرزق من حيث لا يحتسب الإنسان. يقول الله تعالى في سورة الطلاق، الآيتين 2 و 3: «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» (ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب). هذه الآيات تُطمئن الشخص التقي بأن هناك مخرجًا حتى في أشد الظروف وأكثرها تعقيدًا في الحياة، وأن الله هو سنده. هذا الاعتقاد يعزز الأمل ويُزيل اليأس من القلب. فعدم وجود الأمل هو أحد أكبر أسباب الاكتئاب وفقدان الاستقرار النفسي. التقوى، بغرسها شعورًا بالدعم الإلهي، تمنح الإنسان قوة للمقاومة في وجه التحديات، فبدلاً من الاستسلام للمشاكل، يسعى للبحث عن حلول، واثقًا بأن الله لن يتركه وحيدًا. هذا اليقين يقلل بشكل كبير العبء النفسي الناجم عن القلق بشأن الرزق والمستقبل، ويُسهم إسهامًا كبيرًا في الاستقرار الذهني والعاطفي للفرد. بالإضافة إلى ذلك، تؤدي التقوى إلى حياة طيبة نقية. يقول القرآن في سورة النحل، الآية 97: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً» (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة). "الحياة الطيبة" تتجاوز الرفاهية المادية، وتشمل السكينة القلبية، والرضا الداخلي، والشعور الحقيقي بالسعادة. هذا النوع من الحياة يتحقق عندما يعيش الإنسان وفقًا للقيم الإلهية، ويتجنب الذنوب، ويؤدي واجباته تجاه الخالق والمخلوق. الابتعاد عن الذنوب والالتزام بالمبادئ الأخلاقية يمنح الفرد شعورًا بالنقاء والشرف، وهو عامل مهم في الصحة النفسية. فالحياة التي تتسم بالصدق، والعدل، واللطف، والتسامح، تُقلل من الصراعات الداخلية والخارجية، وهذا بدوره يُسهم في الاستقرار النفسي. عادة ما يصاحب الذنوب والمعصية الشعور بالذنب والندم والقلق، وكلها تُغذّي عدم الاستقرار النفسي. في المقابل، تُوفر التقوى، بتوجيه الفرد نحو الأعمال الصالحة والابتعاد عن المحرمات، بيئة آمنة وهادئة لنفسه. علاوة على ذلك، تُسهم التقوى في زيادة البصيرة والقدرة على التمييز بين الحق والباطل. يقول الله تعالى في سورة الأنفال، الآية 29: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا» (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا). امتلاك القدرة على التمييز الصحيح في شؤون الحياة يُساعد الفرد على اتخاذ قرارات صائبة في المواقف المختلفة، ويتخلص من الحيرة والتردد، ويتجنب سلوك المسارات الخطرة التي تؤدي إلى التوتر والندم. هذا الوضوح الفكري والأخلاقي يُسهم بشكل مباشر في الاستقرار النفسي، لأن جزءًا كبيرًا من القلق ينبع من عدم اليقين وعدم القدرة على اتخاذ القرارات. في الختام، تُعتبر التقوى بمثابة درع واقٍ يحمي نفس الإنسان من التلوثات والأضرار النفسية ويمنحها قوة المقاومة. فالشخص التقي يعرف أهدافه بوضوح، ويتوكل على الله، ويجتنب الذنوب، وبالتالي يتمتع بمستوى عالٍ من السكينة والاستقرار النفسي. تُظهر هذه العلاقة المتعددة الأوجه أن الإسلام لا يهتم بالصحة البدنية فحسب، بل يهتم بشكل خاص بالصحة والاستقرار النفسي والروحي للإنسان، ويُعتبر التقوى مفتاح تحقيق هذه الصحة الشاملة. لذلك، يمكن القول بثقة أن الاستقرار النفسي يرتبط ارتباطًا وثيقًا ومباشرًا بالتقوى، لأن التقوى تُؤسس لحياة متوازنة، وهادفة، ومليئة بالسلام. وهذا السلام الداخلي يُساعد الفرد على مواجهة تحديات الحياة بطريقة أكثر فعالية وهدوءًا، ويمنع أي انهيار نفسي.
يُحكى أن ملكاً غنياً وقوياً، كان يجلس ذات يوم عند عين ماء، فرأى درويشاً يضحك ويمزح، يأكل كسرة خبز يابسة مع ماء العين، في هدوء تام ودون أي قلق. الملك، الذي كان قلبه مليئًا بالقلق ونفسه مضطربة بين قصوره الشاهقة وثرواته التي لا تحصى، سأله: "يا رجل! كيف تعيش بهذه البساطة والراحة والبهجة، بينما أنا، بكل هذا النعيم والجلال، لا أجد لحظة راحة؟" ابتسم الدرويش وقال: "يا أيها الملك! أنا قنوع بما لديّ وقد سلمت قلبي لله. أعلم أن رزقي بيديه وأنه لن يتخلّى عني. كل ما أملك أشكر عليه، وكل ما ينقصني أعلم أن فيه حكمة. أما أنت الذي تعلّق قلبك بالدنيا، فدائماً ما تكون قلقًا من أن تفقد شيئًا أو لا تكسب شيئًا." تفكر الملك وأدرك أن السلام الحقيقي ليس في الثروة والمكانة، بل في القلب الراضي التقي، الذي يرضى بقضاء الله ويسلم أمره للخالق القادر. فهم أن الاستقرار النفسي لا ينبع من الخارج بل من الداخل، من التقوى والتوكل على الله.