الإسلام لا يعتبر العزلة المطلقة هي الطريق الرئيسي للتقرب إلى الله، بل يؤكد على الحياة المتوازنة والحضور الفعال في المجتمع إلى جانب العبادة. بينما الخلوات المؤقتة لتزكية النفس مفيدة، فإن الهدف الأسمى للتقرب إلى الله يتحقق من خلال خدمة الخلق وأداء المسؤوليات الاجتماعية.
في الإجابة على سؤال "هل العزلة سبيل للتقرب إلى الله؟" من منظور التعاليم القرآنية والسنة النبوية، يمكن القول إن الإسلام بشكل عام لا يشجع الرهبانية أو الانعزال التام عن المجتمع كطريق أساسي ووحيد للتقرب من الله. بينما تعتبر الخلوة والتأمل في التعاليم الدينية ذات قيمة عالية، بل وضرورية في بعض الأحيان، لتزكية النفس وتعميق العلاقة مع الخالق، إلا أن ذلك لا يجب أن يعني الانقطاع الكامل عن المجتمع والتخلي عن المسؤوليات الفردية والاجتماعية. القرآن الكريم يرسم للمؤمنين طريق الحياة المتوازنة والمعتدلة، التي وصفت بأنها "أمة وسطا". هذا التوازن يعني أن الإنسان يجب أن يفكر في آخرته ولا ينسى نصيبه من الدنيا. وهذا المنهج يتناقض مع الانعزال التام. في آيات عديدة، يؤكد الله على أهمية العلاقات الاجتماعية السليمة، والإحسان إلى الوالدين والأقارب، ورعاية المحتاجين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمشاركة الفعالة في المجتمع لإقامة العدل والخير. هذه المسؤوليات لا يمكن تحقيقها دون الانخراط في المجتمع. وفي كثير من الحالات، يعتبر خدمة الخلق ورعاية شؤون المجتمع بحد ذاتها عبادة عظيمة وطريقاً لنيل رضا الله. ومن هنا، فإن الإسلام دين شامل يربط بين الأبعاد الفردية والاجتماعية لحياة الإنسان، ويرى الكمال البشري في التناغم بين هذين البعدين. إحدى الآيات التي تشير مباشرة إلى موضوع الرهبانية هي الآية 27 من سورة الحديد، حيث يقول تعالى: "ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ۚ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ". توضح هذه الآية بوضوح أن الرهبانية (العزلة المفرطة) كانت بدعة من قبل أتباع المسيحية، ولم يفرضها الله عليهم، وإن كان هدفهم منها هو ابتغاء رضوان الله. تبين هذه الآية أن مثل هذا النهج، أي الانقطاع المطلق عن الدنيا، لم يكن جزءاً من التعاليم الإلهية الأساسية. وهذا لا يعني أن نيتهم كانت مذمومة، بل يوضح أن الشريعة الإسلامية مبنية على الاعتدال والحضور في المجتمع، وهذا الحضور الواعي يمكن أن يضفي عمقاً أكبر على أعمال العبادة. الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) هو أفضل قدوة للمسلمين. فبينما كان يعتزل ويتعبد في غار حراء، وقضى أوقاتاً في التأمل قبل بعثته، إلا أنه بعد البعثة وتأسيس المجتمع الإسلامي، كان أكثر الأفراد نشاطاً وحيوية في صميم المجتمع. كان قائداً سياسياً، وقاضياً، ومعلماً للأخلاق، ورب أسرة، ومجاهداً في سبيل الله. حياته تمثل نموذجاً لتكامل العبادة مع المسؤولية الاجتماعية. لو كانت العزلة المطلقة هي الطريق الرئيسي للتقرب إلى الله، لكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد اختار هذا المسار، في حين أن سيرته تدل على عكس ذلك تماماً. هذه السيرة النبوية، دليل على أن كمال الإيمان والعبودية يتحققان من خلال مواجهة تحديات الحياة الاجتماعية والسعي لتحسينها. الهدف من خلق الإنسان في القرآن ليس مجرد العبادة الفردية، بل هو الخلافة الإلهية على الأرض وعمارتها (سورة البقرة، آية 30). وهذه الخلافة تستلزم حضوراً فعالاً في العالم، وإدارته وفقاً للمبادئ الإلهية، وإقامة العدل والخير. فكيف يمكن تحقيق هذه الأهداف العظيمة دون الحضور والمشاركة في المجتمع؟ الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ونموه وتكامله يتحقق في سياق التفاعلات الاجتماعية السليمة. إن التحديات والصعوبات التي يواجهها المرء في الحياة الاجتماعية توفر فرصاً للصبر والتسامح والإحسان ومجاهدة النفس وخدمة الخلق، وكل من هذه الأمور يمكن أن يكون درجة نحو التقرب من الله. ومن المنظور الإسلامي، فإن الدنيا هي مزرعة الآخرة، ويجب أن تُعمر هذه المزرعة بالأعمال الصالحة والحياة النشطة فيها. ومع ذلك، فإن الإسلام لا يمنع الخلوات المؤقتة للعبادة وتزكية النفس، بل يشجعها. فالاعتكاف في المساجد، والتفكر والتدبر في آيات الله وظواهر الكون، ولحظات الانفراد للمناجاة والدعاء مع الله، كلها أمثلة قيمة للخلوة التي تساعد الإنسان على تقوية علاقته الروحية والعودة إلى ذاته. لكن هذه الخلوات ليست هي الهدف النهائي، بل هي وسيلة للعودة بقوة وبصيرة أكبر إلى ميدان الحياة وأداء الواجبات. إن فرص الخلوة هذه، تشبه إعادة شحن الروح لمواصلة المسار في عالم مليء بالمشاغل. باختصار، العزلة المطلقة والانعزال الدائم عن المجتمع ليسا الطريق المعتمد في الإسلام للتقرب من الله. الطريق الحق هو الاعتدال والتوازن: عبادة عميقة ومخلصة بجانب حضور فعال ومسؤول في المجتمع، وأداء حقوق الناس، والسعي لإصلاح الدنيا وعمارتها بما يتوافق مع الأهداف الإلهية. إن الإنسان الذي ينعزل عن خلق الله قد يحرم نفسه من فرص كثيرة لكسب رضا الله، بما في ذلك خدمة بني البشر، والإحسان، وشكر النعم، والصبر على المصائب الاجتماعية. التقرب إلى الله يتحقق في قلب الحياة النشطة والمليئة بالتحديات، ومن خلال مراعاة حقوق الله وحقوق الناس. الدنيا ليست سجناً ولا هدفاً نهائياً، بل هي مزرعة للآخرة وميدان للجهاد الأكبر ضد النفس والشيطان. لذا، فإن الحضور الواعي والروحي في صميم المجتمع، مع الالتزام بالتقوى والحدود الإلهية، يوفر بيئة أنسب للنمو والتقرب من الانعزال المطلق؛ لأن الإنسان في مسيرة الحياة يواجه تحديات ومواقف تختبر صبره وإيثاره وتسامحه وفضائله الأخلاقية الأخرى، وفي هذه الاختبارات يتجلى إيمانه وينمو، وهذا يعني القرب الحقيقي من خالق الكون.
ذات يوم، بين الجبال الشاهقة، اعتزل زاهدٌ في كهف، يملأ رأسه أفكار التقرب إلى الله. كان يعتقد أن الابتعاد عن الخلق واحتقار الدنيا هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحق. قضى أيامه في العبادة ولياليه في المناجاة، متجنباً كل ما فيه رائحة الدنيا. وفي أحد الأيام، ضاع صياد متعب من عمله، وفي طريق عودته إلى منزله، أُصيب بعاصفة شديدة بالقرب من كهف الزاهد. لم يجد مأوى، فاضطر للجوء إلى مدخل كهف الزاهد. شعر الزاهد بالاضطراب من وجود هذا الغريب، وسمح له بالدخول على مضض. اشتدت العاصفة، فأخرج الصياد قطعة خبز يابسة من حقيبته وقاسمها مع الزاهد. الزاهد، الذي لم يتذوق في حياته سوى لقمة جافة ولم يختلط بالخلق، لان قلبه من هذه الحركة البسيطة من الصياد. دفء الخبز وبساطة الجلوس معاً جعلاه يتأمل بعمق. هو الذي أمضى حياته كلها يبحث عن الله في خلوته، أدرك فجأة أن الله ربما يكون حاضراً في هذه اللحظات البسيطة من الشفقة والتعايش أيضاً. في تلك الليلة العاصفة، لم يجد الزاهد ملجأ من المطر فحسب، بل تعلم درساً عظيماً: أن التقرب إلى الله ليس فقط في العزلة والانعزال، بل أيضاً في خدمة الخلق وفتح القلب لعباده. لقد فهم أن العالم الحقيقي وفرص النمو الروحي تكمن في التفاعل مع بني البشر وتجربة تحديات الحياة المشتركة، لا في الهروب منها.