الحسرة، وهي الندم الشديد على الفرص الضائعة، خاصة في الآخرة، عادة ما تكون ضارة ومؤلمة. ومع ذلك، فإن الشعور بالندم على الأخطاء في الدنيا، إذا أدى إلى التوبة والإصلاح، يمكن أن يكون بناءً ومفيدًا للغاية.
للإجابة على سؤال ما إذا كانت الحسرة ضارة دائمًا، يجب علينا أولاً أن نتحرى بعمق مفهوم 'الحسرة' من منظور القرآن الكريم. في الخطاب القرآني، تُستخدم كلمة 'الحسرة' (ومشتقاتها) عمومًا للدلالة على الندم العميق، الحزن الشديد، والتحسر على الفرص الضائعة التي لم يعد بالإمكان استعادتها. هذا النوع من الحسرة، وخاصة تلك التي تصيب الإنسان في الآخرة ويوم القيامة، هي بلا شك ضارة ومؤلمة للغاية. يشير القرآن الكريم مرارًا إلى 'يوم الحسرة'؛ وهو يوم ترفع فيه الحجب، وتتكشف فيه حقيقة أعمال الناس وتقصيراتهم. في ذلك اليوم، أولئك الذين كفروا بآيات الله في الدنيا، أو سلكوا طريق الضلال، أو أضاعوا الفرص الذهبية للحياة في الإيمان والعمل الصالح، سيصابون بحسرة لا نهاية لها وندم مؤلم لا يجدي نفعًا على الإطلاق. هذه الحسرة لا تفيدهم فحسب، بل تزيد من عذابهم الروحي والنفسي، ولا توجد إمكانية للعودة أو التصحيح. على سبيل المثال، في سورة الزمر، الآية 56، يقول الله تعالى: "أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ". هذه الآية تعبر بوضوح عن الندم العميق لأولئك الذين قضوا حياتهم في غفلة، ويشهدون الآن عواقب أفعالهم. أو في سورة مريم، الآية 39، يقول: "وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ". هذه الآيات تحذرنا من أن هذه الحسرة، الناجمة عن الغفلة وعدم الإيمان، هي ضارة للغاية ولا يمكن إصلاحها. هذا الشكل من الحسرة، الناشئ عن فقدان الفرص التي لا يمكن استردادها، مدمر بعمق. إنه يتسبب في سقوط الأفراد في دوامة من اليأس، حيث يدركون أنه لم يعد هناك أي طريق للتصحيح أو التعويض. هذا الشعور بالعجز واللاجدوى يفرض عبئًا نفسيًا ثقيلاً على الفرد، ويمنعه من المضي قدمًا. حتى في هذا العالم، يختبر الناس أحيانًا هذا النوع من الحسرة، على سبيل المثال، بسبب تفويت فرصة عمل لا مثيل لها، أو فقدان علاقة مهمة بسبب خطأ لا يمكن إصلاحه. إذا أصبح هذا الندم حالة دائمة ومشلة تمنع الجهود لتحسين الظروف، فإنه بالتأكيد سيكون ضارًا. ولكن، هل كل نوع من الندم أو الشعور بالأسف ضار؟ الإجابة هي لا. في التعاليم الإسلامية والقرآنية، هناك فرق جوهري بين 'الحسرة' بالمعنى القرآني (الندم الذي لا يمكن إصلاحه) وبين 'الندم' أو 'التوبة' (الندم الذي يؤدي إلى التغيير والإصلاح). إن الشعور الصحي بالندم على الذنوب أو التقصيرات أو الأخطاء الماضية، إذا حدث في هذه الدنيا وقبل فوات الأوان (قبل لحظة الموت حيث لا فرصة للتوبة)، ليس ضارًا فحسب، بل يمكن أن يكون بناءً جدًا ومنقذًا. هذا الندم هو في جوهره يقظة داخلية تدفع الشخص للعودة إلى الله. يؤكد القرآن الكريم بشدة على 'التوبة النصوح' (التوبة الخالصة). التوبة تعني الندم على الذنب، العزم على تركه، وإصلاح الماضي قدر الإمكان. هذا الندم دليل على حيوية الضمير ويقظة القلب، ويوفر فرصة للتطهر من الذنوب وبدء حياة جديدة أفضل وأكثر إرضاءً. في سورة التحريم، الآية 8، ورد: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ..." (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار...). هذه الآية تبين بوضوح مدى فائدة وبركة التوبة، التي تنبع من الندم على الذنب. لذلك، يمكن الاستنتاج أن الحسرة، كما وصفت في القرآن (خاصة ليوم القيامة)، هي ضارة ومؤلمة للغاية. ومع ذلك، فإن الشعور بالندم على الأخطاء والذنوب في هذه الدنيا، طالما أنه يؤدي إلى التوبة والإصلاح والمضي قدمًا، ليس ضارًا فحسب، بل هو نعمة إلهية وفرصة للنمو الروحي وتطهير النفس. يحذرنا القرآن من حسرة يوم القيامة ويجعل طريق النجاة منها التوبة والعمل الصالح في الحياة الدنيا. ومن ثم، يجب أن يكون الهدف الأساسي في هذه الدنيا هو السعي لحياة لا تؤدي في النهاية إلى الحسرة، وإذا أخطأنا، فعلينا أن نعود فورًا إلى الله بالندم والتوبة.
يُروى في روضة السعدي (البستان) أن ملكًا عادلاً كان لديه وزير ذكي. في أحد الأيام، ارتكب الوزير خطأً في عمله لم يغب عن نظر الملك. شعر الوزير على الفور بالندم، لكن ليس من ذلك النوع من الندم الذي يُقعد المرء ويمنعه من العمل. قال لنفسه: 'إذا لم يدفعني هذا الندم إلى التوبة والإصلاح، فهو حسرة أخرى.' فذهب على الفور إلى الملك، واعترف بخطئه، واعتذر بكل صدق، ووعد بأن يخدم من الآن فصاعدًا بعناية ودقة أكبر. الملك، عندما رأى صدق الوزير وندمه البنّاء، غفر له بل ورفع من مكانته. ومنذ ذلك الحين، كلما ارتكب الوزير خطأً، بدلاً من الوقوع في فخ الحسرة، اعتبره سلماً للتوبة والإصلاح. وهكذا، أصبحت حياته، في الدنيا وفي نظر الله، مليئة بالبركة والسلام، لأنه ميّز بين الندم البناء والحسرة المدمرة.