هل الشوق للحياة يتناقض مع الزهد؟

لا، الشوق للحياة لا يتناقض مع الزهد، شريطة أن يفهم الزهد بشكل صحيح: فهو يعني عدم التعلق القلبي بالدنيا، لا تركها. ويؤكد القرآن الكريم على الاعتدال والاستفادة الشكرية من نعم الدنيا الحلال كوسيلة لتحقيق الآخرة.

إجابة القرآن

هل الشوق للحياة يتناقض مع الزهد؟

فهم العلاقة بين الشوق للحياة ومفهوم الزهد هو من بين النقاشات العميقة والغنية في التعاليم الإسلامية والقرآنية، وغالباً ما يساء فهمها. قد يرى البعض الزهد بمعنى ترك الدنيا والامتناع عن الملذات والجمال الحلال، والابتعاد عن أي نشاط وجهد في الحياة الدنيوية. للوهلة الأولى، قد يظهر هذا الفهم أن الشوق للحياة، والسعي للتقدم، وكسب الرزق الحلال، وتكوين الأسرة، والاستمتاع بالنعم الإلهية، يتناقض مع الزهد. ولكن بالرجوع إلى آيات القرآن الكريم وسنة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، يتضح أن هذا التصور للزهد هو فهم سطحي وناقص، ويبعد عن جوهر تعاليم الإسلام. في الواقع، الزهد الإسلامي لا يعني ترك الدنيا، بل يعني عدم التعلق القلبي بالدنيا ومادياتها، بينما الشوق للحياة بالمعنى القرآني يشمل السعي البناء والمسؤول في الدنيا لتحقيق السعادة في الدارين. القرآن الكريم يوضح صراحة أن الله تعالى خلق نعم الدنيا وجمالها لعباده. ففي سورة الأعراف، الآية 32، نقرأ: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»؛ أي: «قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة. كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون.» هذه الآية توضح بجلاء أن استخدام نعم الدنيا وزينتها الحلال ليس فقط مسموحًا، بل هو مشجع. الشوق للحياة، في إطار هذه الآية، يعني الاستفادة الصحيحة والشكرية من هذه النعم، لا التعلق المفرط ونسيان الآخرة. من ناحية أخرى، الإسلام دين يؤكد على الوسطية والاعتدال. مفهوم «الوسطية» قد ذكر مرارًا في القرآن الكريم. فلا الرهبانية والابتعاد الكامل عن الدنيا هو مقبول، ولا الانغماس المطلق في الماديات ونسيان الهدف الأصلي من الخلق. في سورة القصص، الآية 77، يقول الله تعالى: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ»؛ أي: «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين.» هذه الآية تشهد على أن الإنسان المؤمن يجب أن يسعى للآخرة وأن يأخذ نصيبه من الدنيا. الشوق للحياة في هذا السياق هو سعي بناء لخلق الرخاء، وتنمية المجتمع، ومساعدة الآخرين، وعمارة الأرض، بنية أن كل ذلك وسيلة للوصول إلى القرب الإلهي والسعادة الأخروية. الزهد الحقيقي ينبع من إدراك أن الدنيا فانية وزائلة وأن الهدف الأساسي هو الآخرة. سورة الحديد، الآية 20، توضح طبيعة الدنيا: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ»؛ أي: «اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً، وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.» هذه الآية تحذر الإنسان من التعلق بالفاني، ولكنها لا تعني نفي الاستفادة الصحيحة من الدنيا، بل تعني عدم التعلق القلبي بها. الإنسان الذي يتعلق بالدنيا يحرم من الملذات الروحية والحقيقية ويسعى دائمًا للمزيد، أما الزاهد فهو الذي، رغم استمتاعه بالدنيا، قلبه ملك لله ويعتبر الدنيا وسيلة للوصول إلى الآخرة. لذلك، إذا كان الشوق للحياة يعني السعي للعمارة والتقدم وكسب الرزق الحلال واستخدام النعم للوصول إلى الكمال والرضا الإلهي، فإنه لا يتناقض مع الزهد، بل هو جزء لا يتجزأ منه. الزهد الحقيقي هو أن تكون الدنيا في اليد لا في القلب. النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومون (عليهم السلام) كانوا أفضل الأمثلة على الزهد، في حين كانوا في ذروة الأنشطة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأسرية. لقد استمتعوا بالملذات الحلال في الحياة، لكنهم لم يصبحوا أبدًا عبيدًا للدنيا، وكانوا يعتبرون الآخرة دائمًا هي المقصد النهائي. الشوق للحياة يتعارض مع الزهد فقط عندما يتحول إلى «حب الدنيا» أو دنيوية؛ أي عندما يغفل حب المال والمكانة والملذات الفانية الإنسان عن ذكر الله والآخرة ويقوده إلى الخطيئة والظلم. في هذه الحالة، يتحول هذا الشوق إلى شهوة وطمع، وسيكون في تناقض كامل مع الزهد، الذي يتجذر في طهارة القلب والهدف الإلهي. خلاصة القول، الشوق للحياة إذا كان بنية صحيحة واعتدال، ومحوره رضا الله، فهو عين الزهد، لأن الزاهد الحقيقي هو الذي يجعل الدنيا في خدمة الآخرة، وليس العكس.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

كان تاجر ثري، سفنه تبحر في كل بحر وقوافله تجوب كل طريق، دائمًا ما يثقل كاهله هموم الربح والخسارة والسرقة والعواصف. نادراً ما ابتسم، وطعامه لم يعد له مذاق بسبب قلقه الدائم. ذات يوم، رأى درويشًا جالسًا تحت شجرة، يتناول قطعة خبز جافة بفرح واضح ويذكر الله. اقترب التاجر منه وقال: «يا درويش، كيف يمكنك أن تكون سعيدًا وراضيًا بهذا القليل، بينما أنا، الذي أمتلك ثروة هائلة، لا أجد السلام؟» ابتسم الدرويش بحرارة وأجاب: «يا تاجر، أنت تملك الدنيا في يديك، ولكن الدنيا تملك قلبك. أما أنا، فأحمل الدنيا في يدي (لأنني أعمل وأسعى) ولكن ليس في قلبي. شوقي للحياة ليس للتراكم، بل للشكر والعيش الصالح. أستمتع بما يرزقني الله، ولا أقلق مما يمنع، فإن كنزي الحقيقي أبعد من هذا الدار الفانية.» تأمل التاجر هذه الكلمات وبدأ يفهم أن الثراء الحقيقي لا يكمن فيما يجمعه المرء، بل في السلام الذي يجده بتحرير القلب من تعلقات الدنيا مع الاستمرار في الاستمتاع بنعم الحياة. تعلم أن الشوق الحقيقي للحياة يكمن في خدمة الله والإنسانية، لا في السعي اللانهائي وراء المكاسب المادية.

الأسئلة ذات الصلة