القرآن لا يقر بأن الطريق الأصعب هو الأصح دائماً. لكن طريق الحق غالباً ما يصاحبه تحديات ضرورية للنمو الروحي. المعيار هو الحقانية والثبات في سبيل الله، لا مجرد الصعوبة.
إن السؤال العميق: "هل الطريق الأصعب هو الطريق الأصح؟" يتطلب فهماً دقيقاً من منظور القرآن الكريم، بالنظر إلى طبيعة الإيمان، والابتلاءات الإلهية، والمكافآت السماوية، والمفاهيم الجوهرية للسهولة والصعوبة في الدين. القرآن لا يذكر صراحة أن كل طريق أصعب هو بالضرورة أكثر صحة. بدلاً من ذلك، يؤكد أن "الطريق الصحيح" – أي الصراط المستقيم، طريق الحق وعبادة الله – غالباً ما يكون مصحوباً بالتحديات، والابتلاءات، والعقبات. هذه الصعوبات ليست غاية في حد ذاتها، بل هي عناصر لا مفر منها وضرورية للنمو والتكامل الروحي للإنسان، وتعمل على تمييز المؤمنين الصادقين عن المدعين. هذه الصعوبات لا تهدف إلى الإيذاء أو المشقة العبثية، بل لتنقية وتصقيل الروح البشرية حتى تبلغ الكمال والقرب الإلهي. في آيات متعددة، يشير القرآن إلى أن الحياة الدنيا هي دار اختبار وابتلاء، والمؤمنون ليسوا استثناءً من هذه القاعدة الإلهية. يوضح الله تعالى هذا المبدأ بوضوح في سورة البقرة، الآية 155: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ". هذه الآية تؤكد بشكل قاطع أن الشدائد مثل الخوف، والجوع، ونقص الأموال والأنفس والثمرات، هي جزء لا يتجزأ من رحلة المؤمن. الهدف من هذه الاختبارات هو قياس مدى ثبات المرء، وصبره، وتوكله على الله، ومثابرته في طريق الحق. تعمل هذه الصعوبات كوسيلة لتطهير الروح وإزالة الشوائب من قلب الإنسان، وبمعنى ما، تهيئة المؤمن لمراحل روحية أعلى. ومن يصبر على هذه الشدائد ولا ينحرف عن الطريق الصحيح، يُبشّر بالبشارة الإلهية. ولتعزيز هذا المفهوم، تتناول الآيتان 2 و 3 من سورة العنكبوت هذه الفكرة بشكل لا لبس فيه: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ". هذه الآيات، بلهجة استفهامية، ترفض أي فكرة مبسطة للإيمان. الإيمان ليس مجرد ادعاء لفظي؛ بل يتطلب إثباتاً عملياً في بوتقة الابتلاءات. يقول الله تعالى أن الأجيال السابقة قد جُربت أيضاً، وهذه سنة إلهية لتمييز الصادقين من الكاذبين. هذه "الفتنة" أو الاختبار تشمل الصعوبات والتحديات التي تنشأ في طريق الإيمان. وهكذا، فإن الصعوبات في الطريق الصحيح ليست طبيعية فحسب، بل تلعب دوراً حيوياً في الكشف عن عمق وصدق إيمان الفرد. إنها تعمل على تقوية الشخصية، وتعميق اليقين، وتكوين روح مرنة قادرة على مواجهة تعقيدات الحياة. ومع ذلك، من ناحية أخرى، يؤكد القرآن الكريم مراراً وتكراراً على مفهوم "اليسر" في دين الإسلام. من الأهمية بمكان أن يكون لدينا فهم صحيح لهذه النقطة. في سورة الحج، الآية 78، نقرأ: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ". هذه الآية توضح بوضوح أن الله لم يضع عليكم في الدين أي مشقة أو ضيق. الأحكام والأوامر الإلهية ليست فوق طاقة البشر ولا تضع عبئاً لا يطاق على الأفراد. هذا يعني أن الإسلام، بطبيعته الجوهرية، دين سهل وعملي. لذلك، إذا نشأت صعوبات في طريق الحق، فإنها غالباً ما تكون بسبب عوامل خارجية (مثل المعارضة المجتمعية، ووساوس الشيطان) أو داخلية (مثل الرغبات الدنيوية والعيوب الأخلاقية)، بدلاً من أن تكون من طبيعة الدين نفسه. بعبارة أخرى، فإن السير في طريق الحق في عالم مليء بالمغريات المادية والذنوب يتطلب جهاد النفس والمقاومة ضد الشهوات. هذا الجهاد والمقاومة هو الذي قد يجعل الطريق يبدو شاقاً، وليس جوهر الدين نفسه، الذي هو مليء بالرحمة واليسر. وقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً: "الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه". هذا الحديث النبوي يوضح بجلاء أن الغلو في الدين وفرض المشقات غير الضرورية على النفس ليس مقبولاً فحسب، بل يمكن أن يؤدي إلى الانحراف والفشل. لذلك، فإن معيار صحة الطريق ليس "صعوبته"، بل "حقانيته" أو استقامته على الحق. إذا كان الطريق حقاً، حتى لو استتبع صعوبات بسبب عوامل خارجية أو صراع مع النفس، فإن تلك الصعوبات تصبح ذات قيمة وبناءة. إنها ليست موانع، بل فرص للارتقاء الروحي. في الواقع، لا تُقاس قيمة ومصداقية الطريق بصعوبته الظاهرية، بل بالهدف والمقصد الذي يؤدي إليه، وبدرجة الثبات والمثابرة المطلوبة للسير فيه. قد يكون طريق الحق مليئاً بالتقلبات والابتلاءات، لكن الوعد الإلهي لمن يسلك هذا الطريق هو أجر عظيم، وسلام دائم، وسعادة أبدية في الآخرة. تعمل المشقات التي تُكابد في هذا الطريق كمطهر للذنوب، ووسيلة لرفع الدرجات الروحية، وكذلك كفرصة للنمو الشخصي والنضج. فمع كل شدة، يقترب المؤمن من الله، ويكتسب فهماً أعمق للتوكل والصبر، ويزداد ثقته بالقدرة والرحمة الإلهية. تُعد سير الأنبياء والأولياء الصالحين دليلاً واضحاً على هذه الحقيقة. فقد واجه أنبياء الله، طوال رسالتهم الإلهية في دعوة الناس إلى الحق، أعظم التحديات والعداوات والاضطهادات والمقاومة. من طردهم من أوطانهم إلى تهديدهم بالقتل وتحملهم مشقات جمة. ومع ذلك، فإن ثباتهم وصبرهم في مواجهة هذه الصعوبات لم يقوِ إيمانهم ويرفع مكانتهم فحسب، بل أصبحوا نموذجاً خالداً للبشرية جمعاء. قصة يوسف عليه السلام في مواجهة حسد إخوته، وإلقائه في البئر، وأسره وسنوات سجنه؛ وقصة أيوب عليه السلام في ابتلائه بالمرض الشديد وفقدان المال والأولاد؛ وقصة موسى عليه السلام في صراعه الدائم مع فرعون وقومه العاصين – كلها أمثلة واضحة على أن طريق الحق، وإن كان قد يصاحبه مشكلات وصعوبات، إلا أنه الأثمن والأصح بسبب عظمة هدفه، والجزاء الإلهي، ورضا الرب. لذلك، لا يمكننا أن نعمم أن كل طريق أصعب هو بالضرورة الأكثر صحة. قد يختار المرء، بدافع الجهل أو التعصب أو حتى الزهد الزائد غير المشروع، طريقاً شديد الصعوبة وعديم الهدف ولا يمت بصلة إلى الحق أو رضا الله. إن المعيار والمقياس لصحة الطريق هو توافقه مع الهداية الإلهية، كما تتجلى في القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والعقل السليم، والفطرة البشرية النقية. إذا كان هذا الطريق، المتوافق مع الحق، يستلزم صعوبات، فإن تلك الصعوبات تعتبر اختباراً إلهياً وفرصة للنمو والتقرب وتطهير الروح. ما يهم هو "الثبات والمثابرة على طريق الحق"، وليس مجرد اختيار الصعوبة لذاتها. الإيمان بالله واليوم الآخر هو الدافع الأساسي لتحمل هذه الصعوبات، مما يسمح للمؤمن ليس فقط بأن لا يخشاها، بل أن يراها فرصاً للتقرب وكسب الأجر الأبدي. إن صعوبات الطريق المستقيم هي في الواقع حجاب تكشف عن حقيقة شخصية الأفراد وتنمي الإرادة القوية والثقة في الوعود الإلهية في قلوب المؤمنين. في الختام، يعلمنا القرآن الكريم أن نسير دائماً في طريق الحق ونسعى لرضا الرب، حتى لو كان هذا الطريق مصحوباً بالتحديات والصعوبات. هذه الصعوبات، في المنظور الكلي للحياة والحياة الآخرة، مؤقتة وعابرة، وضئيلة مقارنة بالمكافآت الإلهية التي لا نهاية لها. وقد بشر الله بنفسه الصابرين والسائرين على طريق الحق في سورة الشرح، الآيتين 5 و 6: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا". تشير هذه الآيات بوضوح إلى أن كل صعوبة سيصاحبها يسر، وهذا اليسر الذي يأتي بعد الشدة ليس مجرد تخفيف للآلام، بل هو مكافأة على الثبات في طريق الحق. ومن ثم، فإن معيار اختيار الطريق ليس درجة صعوبته، بل صحته وحقيقته، والتوكل على الله في سلوكه، وصدق النية. إن الصعوبات التي تنشأ في هذا الطريق لا تهدف إلى الإيذاء أو المشقة العبثية، بل لتنقية وتصقيل الروح البشرية حتى تبلغ الكمال والقرب الإلهي. إن الاختيار الواعي لطريق الحق، حتى مع الوعي بصعوباته المحتملة، يدل على البصيرة وعمق الإيمان والتوكل الحقيقي، مما يؤدي في النهاية إلى الفلاح والنجاح.
يُحكى أنه في قديم الزمان، في مدينة بعيدة، عاش رجل زاهد كان دائم البحث عن الحقيقة. سأل يوماً معلماً حكيماً: "يا حكيم، أي الطرق هي الصراط المستقيم؟ أهي السهلة الممهدة، أم المتعرجة الشاقة؟" ابتسم المعلم وقال: "يا طالب الخير، يظن كثيرون أن الطريق كلما كانت أصعب، كلما كانت أقرب إلى المقصد. لكن الحقيقة أن الطريق المستقيم ليس صعباً بحد ذاته؛ بل هو الذي إذا سلكته، قد تجعل شوك النفس ومغريات الدنيا صعبته عليك. هي كقصة مسافر ضل في الصحراء. كان أمامه طريقان: أحدهما واسع وممهد، بدا وكأنه سيصل به إلى العمران سريعاً، ولكنه في الحقيقة كان يؤدي إلى سراب وهلاك. والآخر كان ضيقاً ومحفوفاً بالصخور، وكان السير فيه شاقاً للغاية، لكن المسافر الحكيم الذي خبر الصحراء علم أن هذا الطريق يؤدي إلى نبع ماء صافٍ وغابة نخيل مثمرة. فصبر وتوكل، واختار الطريق الصعب، وتجشم المصاعب، ووصل أخيراً إلى مقصده، وشرب من الماء الذي أحيا روحه. اعلم أن ليس كل مشقة دليلاً على طريق الحق، وليس كل سهولة سبباً للضلال. المعيار هو استقامة الطريق ومقصده، وإن ظهرت صعوبات في هذا الطريق الحق، فإنها هي نفسها سلم الوصول إلى الله."