نعم، يذكر القرآن المعرفة المسبقة، في إشارة إلى علم الله المطلق بالغيب، القدر، واللوح المحفوظ. هذه المعرفة حصرية لله ولا تعني الجبر، بل تشمل اختيارات الإنسان الحرة.
نعم، لقد تحدث القرآن الكريم مرارًا وبوضوح تام عن مفهوم "المعرفة المسبقة"، ولكن ليس بمعنى معرفة الإنسان بالمستقبل أو تنبؤاته المحدودة، بل بمعنى علم الله المطلق، الأزلي، واللامحدود. وقد عبر القرآن عن هذا المفهوم بمصطلحات مختلفة مثل "علم الله"، "علم الغيب"، "القدر" (التقدير الإلهي)، و"اللوح المحفوظ"، وكل منها يوضح جانبًا من هذا العلم الإلهي الشامل والواسع. إن فهم هذا التعليم القرآني يعزز أسس الإيمان والتوكل على الله، ويقدم بصيرة عميقة حول مكانة الإنسان في الوجود والحكمة الإلهية. يصرح القرآن الكريم بأن الله يعلم كل شيء، ولا يغيب عن علمه مثقال ذرة. يشمل هذا العلم الماضي، الحاضر، والمستقبل، والظاهر والباطن، وما هو مكشوف أو مستتر في القلوب. الله تعالى يعلم كل شيء وكل حدث علمًا كاملاً بلا نقص قبل خلقه. على سبيل المثال، في سورة الأنعام، الآية 59، يقول الله تعالى: "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ". هذه الآية توضح بجمال ودقة لا مثيل لهما اتساع علم الله، حيث لا تخفى عليه حتى سقوط ورقة أو وجود حبة في ظلمات الأرض. هذا هو قمة المعرفة المسبقة والشاملة التي تشمل أدق تفاصيل الوجود. ومن التجليات الأخرى للمفهوم الإلهي للمعرفة المسبقة في القرآن، مفهوم "اللوح المحفوظ". اللوح المحفوظ هو كتاب أزلي أبدي، سجلت فيه جميع المقادير والأحداث والأحكام والمعارف الكونية قبل أن تتحقق في العالم الفعلي. يقول الله تعالى في سورة البروج، الآيتان 21 و 22: "بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ". وعلى الرغم من أن هذه الآية تتحدث تحديدًا عن القرآن، إلا أن اللوح المحفوظ في التفسير الإسلامي والروايات يُفهم على أنه مصدر العلم الإلهي ومكان تسجيل جميع مقادير الكون. كذلك، تؤكد الآية 22 من سورة الحديد بشكل صريح: "مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ". هذه الآية تشير بوضوح إلى أن جميع الأحداث، حتى المصائب، كانت معلومة ومسجلة في علم الله قبل وقوعها، وهذا دليل واضح على المعرفة المسبقة المطلقة لله. مفهوم "القدر" أو التقدير الإلهي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعرفة المسبقة لله. يوضح القرآن أن كل شيء قد خلق بقدر وتقدير. يقول الله تعالى في سورة القمر، الآية 49: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ". هذا يعني أن الله، بناءً على علمه اللامحدود، قد وضع لكل ظاهرة ولكل مخلوق قدرًا محددًا ومصيرًا معلومًا. هذا التقدير الإلهي، الذي يستند إلى علم الله الأزلي، لا يتعارض مع حرية الإنسان وإرادته الحرة. فعلم الله لا يعني أن الإنسان مجبر على فعل شيء، بل يعني أنه يعلم ما سيختاره الإنسان بإرادته الحرة. يشمل علم الله جميع الاحتمالات والاختيارات التي يتخذها البشر طوال حياتهم. بعبارة أخرى، يعلم الله مسبقًا ما سنختاره، وليس أنه يجبرنا على تلك الاختيارات. هذا التوازن بين العلم الإلهي وحرية الاختيار الإنساني هو أحد الجوانب العميقة لتعاليم القرآن. يجب التأكيد على أن المعرفة المسبقة المذكورة في القرآن هي خاصة بالله وحده، وأن البشر بطبيعتهم واستقلالهم لا يعلمون الغيب أو المستقبل. ففي سورة النمل، الآية 65، يقول الله تعالى: "قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ". وقد يكشف الله أحيانًا، بإذنه وإرادته، جزءًا من علم الغيب لأنبيائه المصطفين، ولكن هذه المعرفة هي هبة ومحدودة، وليست ذاتية ومطلقة. هذا التمييز مهم للغاية، لأنه يمنع الادعاءات الكاذبة بشأن التنبؤ والعرافة ويوجه المؤمنين نحو التوكل والثقة في المصدر الوحيد الحقيقي للعلم والقوة، وهو الله. في الختام، إن فهم هذا المبدأ بأن الله عليم بكل شيء ومحيط بجميع الأمور مسبقًا يمنح المؤمنين شعورًا خاصًا بالراحة والطمأنينة. هذا العلم الإلهي المطلق لا يشمل فقط الأحداث الكبرى والمصيرية، بل يشمل أيضًا أدق تفاصيل الحياة الفردية والجماعية. هذا التعليم يرشدنا إلى الثقة في الحكمة والتدبير الإلهي في جميع الظروف، سواء في الشدائد أو في الرخاء. إن اليقين بهذه المعرفة المسبقة يعزز أيضًا إحساسنا بالمسؤولية، لأننا نعلم أن أيًا من أفعالنا لن يخفى عن علم الله، وسيظهر في النهاية يوم الحساب. لذلك، يضيف القرآن، بتقديمه لمفهوم المعرفة المسبقة الإلهية، بعدًا معرفيًا عميقًا إلى نظرتنا للعالم، ويؤسس أسسنا الأخلاقية والسلوكية على مبادئ التوكل والطاعة والمسؤولية.
ذات مرة، استدعى أحد الملوك رجلاً حكيمًا يدعي معرفة الغيب، ويتنبأ بالمستقبل من خلال مراقبة النجوم وحركة الأفلاك. سأله الملك: "هل يمكنك أن تخبرني ما سيحل بهذه الأرض في العام القادم؟ هل سيكون هناك وفرة ورخاء أم قحط وصعوبات؟" فأجاب الرجل الحكيم بفخر: "يا أيها الملك! بعلمي الفلكي وحساباتي، أعلم أن العام القادم سيشهد أمطارًا غزيرة وستعطي الأرض محصولًا وفيرًا وسيعيش الناس في راحة ورخاء." ابتسم الملك وقال: "هذا علم حسن، لكن الحقيقة هي أن العلم المطلق هو لله وحده. هو الذي يعلم ما سيحدث، ونحن عباده لا نستطيع إلا أن نسعى لما قدر لنا وأن نتوكل عليه. فربما يكون التقدير الإلهي شيئًا أبعد من كل تنبؤ وتخمين." بعد بضعة أيام، وعلى الرغم من تنبؤات الرجل الحكيم، قامت عاصفة شديدة، وتسببت السيول في تدمير المزارع. عاد الرجل الحكيم خجلًا إلى الملك. فقال الملك بلطف: "رأيت كيف أن علم الإنسان محدود، وأن الله وحده هو العليم بكل شيء ويعلم ما هو خير لعباده. المهم هو أن نثق في حكمته وعلمه في جميع الأحوال، سواء في الشدة أو الرخاء، وألا نغفل عن تدبيره." تذكرنا هذه القصة أنه بالرغم من سعي الإنسان لمعرفة المستقبل، إلا أن المعرفة المسبقة الحقيقية هي لله تعالى وحده، والاعتماد عليه هو أفضل نهج في مواجهة مجهولات الزمن.