يؤكد القرآن الكريم على ضرورة ذكر الله دائمًا، وليس فقط في أوقات محددة. هذا التواصل المستمر من خلال الذكر والدعاء والعيش بنية إلهية، يمنح القلوب الاطمئنان، وهو وسيلة للطلب والشكر.
في مدرسة الإسلام المانحة للحياة وتعاليم القرآن الكريم الغنية، يُعتبر الاتصال المستمر والعميق مع الخالق أحد الأسس الجوهرية للإيمان والكمال الروحي. والإجابة على السؤال: "هل يجب التحدث مع الله دائمًا؟"، بالنظر إلى آيات القرآن النورانية، هي نعم بالتأكيد. هذا التحدث مع الله، بالطبع، لا يعني مجرد الحوار اللفظي فقط، بل يشمل حالة من حضور القلب، والذكر الدائم، والدعاء، والشكر، والتوبة، والعيش وفقًا للمشيئة الإلهية، وهي حالة تسري في كل لحظة من حياة الإنسان. يأمر القرآن الكريم المؤمنين بذكر الله كثيرًا. وهذا الأمر يدل على أن ذكر الله لا ينبغي أن يقتصر على أوقات وعبادات معينة، بل يجب أن يكون حاضرًا في جميع شؤون الحياة. على سبيل المثال، في سورة الأحزاب، الآيتين 41 و 42، نقرأ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ﴿٤١﴾ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴿٤٢﴾» (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً، وسبّحوه بكرة وأصيلاً). هذه الآيات تأمر صراحة بذكر الله الكثير والدائم. وذكر الله ليس باللسان فقط، بل بالقلب والعمل أيضًا. فعندما يقف الإنسان أمام جمال الخلق ويتأمل في عظمة الخالق، فإنه في الواقع يتحدث مع الله. وعندما يتوكل عليه في الصعاب ويلتمس منه العون، فهو أيضًا في حالة حوار. أحد أجمل تجليات هذا الحوار الدائم هو "الذكر". الذكر هو حالة من اليقظة والوعي القلبي لوجود الله. يمكن أن يكون هذا الوجود في شكل تسبيح وتهليل (قول سبحان الله ولا إله إلا الله)، أو في شكل تفكر وتدبر في آيات الله في الآفاق والأنفس. تصف سورة آل عمران، الآية 191، المؤمنين الحقيقيين على النحو التالي: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...» (الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض...). هذه الآية تبين بوضوح أن ذكر الله لا يقتصر على زمان أو مكان محدد، بل يجب أن يكون ساريًا في جميع أحوال وظروف الحياة. وهذا الذكر ليس فقط لأداء الواجب، بل لراحة القلوب. كما جاء في سورة الرعد، الآية 28: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب). هذا الاطمئنان هو النتيجة الطبيعية للاتصال المستمر والقلبي بمصدر السكينة الذي لا ينضب. الجانب الآخر من هذا الحوار هو "الدعاء". الدعاء هو جوهر العبادة ولبُّها، وهو وسيلة مباشرة لعرض الحاجات والرغبات والشكر وحتى الشكاوى أمام الخالق المتعال. يقول الله صراحة في سورة غافر، الآية 60: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين). هذه الآية لا تشجعنا على الدعاء فحسب، بل تعد بالإجابة وتذم التكبر عن الدعاء. يمكن أن يتم الدعاء في أي وقت ومكان؛ في قمة الفرح والنجاح للشكر، وفي غاية الحزن واليأس لطلب العون والراحة، وفي كل لحظة لطلب الهداية والمغفرة. إن الدعاء يعبر عن رؤية الإنسان لنفسه محتاجًا وفقيرًا أمام الله الغني، وقد علّق كل أمله به. هذا الحوار يمنح الفرد شعورًا بالاستناد القوي ويخلصه من الوحدة واليأس. الصلاة، وهي عبادة منظمة وواجبة، تُعد ذروة هذا الحوار والمناجاة. فالمصلي في صلاته يتحدث مباشرة مع ربه، يحمد ويثني عليه، ويلتمس منه العون، ويطلب الهداية. ولكن الصلاة، كعمل عبادي محدد، هي في الواقع تدريب لتوسيع هذه الحالة من الاتصال لتشمل جميع ساعات الحياة. أوقات الصلاة الخمسة على مدار اليوم هي فرص لإيقاظ الإنسان من الغفلة وإعادته إلى ذكر الله وحضوره، بحيث يبقى هذا الشعور بالحضور والاتصال ثابتًا حتى بين الصلوات. وبناءً عليه، فإن "التحدث مع الله دائمًا" هو أسلوب حياة قرآني. هذا لا يعني أن الإنسان يجب أن يكون دائمًا في حالة تسبيح وذكر لساني ويعزف عن أمور الحياة، بل يعني أن قلبه يجب أن يكون دائمًا متوجهًا إلى الله، وأن يؤدي كل عمل بنية إلهية، وأن يكون شاكرًا للنعم في كل لحظة، وأن يتوكل عليه في الصعاب، وأن لا ينساه في الأفراح، وأن يضع رضا الله في اعتباره في كل خيار وقرار. هذه الحالة تمنح الإنسان بصيرة، وتبعده عن الذنوب، وتدفعه نحو الخير. إن هذا الاتصال الدائم يؤدي إلى النمو الروحي، وتقوية الإيمان، وفي النهاية تحقيق السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة. نعم، يجب دائمًا التحدث مع الله؛ بلغة يفهمها وبحالة ترضيه، في كل نفس، في كل نظرة، وفي كل خطوة.
في زمان بعيد، كان هناك تاجر يُدعى فريد، كان ذكر الله دائمًا في قلبه أثناء أسفاره. ذات مرة، ضاعت قافلته في صحراء قاحلة لا ماء فيها ولا كلأ. أصاب الجميع الهلع، وأخذوا يصرخون من الشدة والعطش. أما فريد، فرفع يديه إلى السماء وبدأ يهمس بهدوء: "يا ربي القادر، يا من تهدي الضالين، يا من على كل شيء قدير، انصرنا." كان يتحدث مع الله ليس بلسانه فقط، بل بكل كيانه، ولم يقطع أمله فيه أبدًا. حتى عندما سقط الآخرون من التعب، ظل هو يذكر الله ويشكر الله على كل خطوة يخطوها. بعد ساعة، هبت نسمة باردة وظهرت الغيوم في السماء وبدأ المطر الإلهي بالنزول. نجا القافلة، وأدرك فريد أن الحوار الدائم مع الله ليس فقط في وقت الحاجة، بل في كل لحظة هو نور يهدي وطمأنينة تسري في الروح. وقد تذكر دائمًا قول سعدي: "من كان دائمًا مع الله، كان آمنًا من البلاء".