يرسم القرآن صورة شاملة للإنسان المثالي، قائمة على الإيمان والتقوى والعلم والعدل والإحسان والمسؤولية الاجتماعية. يسعى هذا الفرد باستمرار نحو النمو والكمال في سبيل القرب الإلهي.
يقدم مفهوم "الإنسان الكامل" في القرآن الكريم صورة شاملة وعميقة لأسمى حالات الوجود البشري؛ على الرغم من أن مصطلح "الإنسان الكامل" لم يُستخدم حرفياً في القرآن، إلا أن جميع الخصائص والأهداف والمسارات للنمو والتسامي الإنساني قد تم شرحها بوضوح في آيات القرآن المختلفة. يصف القرآن الإنسان بأنه كائن ذو كرامة وشرف، وإمكانيات لا حصر لها للوصول إلى القرب الإلهي. هذه الصورة لا تؤكد على الأبعاد الروحية فحسب، بل على الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية وحتى العقلية للإنسان، ليتمكن الفرد من تحقيق الكمال في جميع جوانب الحياة ويصبح نموذجاً يحتذى به للآخرين. السمة الأولى والأساسية للإنسان الكامل في القرآن هي "التوحيد" و"الإيمان الراسخ" بالله الواحد الأحد. هذا الإيمان ليس مجرد اعتقاد ذهني، بل هو جذر يوجه جميع أفعال الإنسان وأفكاره، ويدعوه إلى عبادة الله خالصة دون إشراك أحد معه (على سبيل المثال، سورة الإخلاص). هذا التوحيد يضمن حرية الإنسان من أي عبودية لغير الله ومن التعلق بشؤون الدنيا. فالمؤمن الحقيقي هو من يدرك وجود الله في كل حال وظرف، ولا يعبد سواه. يشكل هذا الاعتقاد العميق بالخالق العمود الفقري لهوية الإنسان الكامل ويرفعه فوق الهموم المادية والفانية، ويمنحه سكينة لا مثيل لها، ويهديه في مسار حياته. بعد الإيمان، تُعد "التقوى"، أي تزكية النفس ومراقبة الله، من أهم سمات الإنسان القرآني. التقوى تعني اجتناب محرمات الله وأداء الواجبات بأقصى درجات الإخلاص والعناية. الإنسان التقي يراقب حدود الله في جميع أعماله، ويعلم أن الله مطلع عليه ولا يخفى عليه شيء (سورة البقرة، الآيات 2-5). هذه التقوى تمهد الطريق لتلقي الهداية الإلهية والبصيرة في الحياة، وتساعد الإنسان على مقاومة الوساوس والشهوات والانحرافات، ويبقى ثابتاً على طريق الحق. الإنسان الكامل هو الذي يُزكي نفسه بالتقوى ويُطهرها من الشوائب ويُزينها بالفضائل الأخلاقية. لـ"العلم والمعرفة" مكانة خاصة أيضاً في تصوير الإنسان الكامل. يدعو القرآن الإنسان إلى التفكر والتدبر في آيات الله واكتشاف أسرار الخلق، ويحثه على النظر إلى العالم بعين مفتوحة واستغلال عقله. أول أمر إلهي في القرآن هو "اقرأ" و"تعلم" (سورة العلق). فالإنسان الكامل طالب علم ومعرفة، ويستخدم عقله لفهم حقائق الوجود وتوجيه حياته. تتجلى هذه المعرفة ليس فقط في العلوم الظاهرية والمادية، بل أيضاً في الحكمة والبصيرة العميقة تجاه الذات والله والعالم، مما يرشده نحو الحقيقة المطلقة. في البعد الأخلاقي، تُعد "العدل" و"الإحسان" من السمات البارزة للإنسان الكامل. يؤكد القرآن بشدة على مراعاة العدل في جميع الأمور، حتى تجاه الأعداء ومن تُعادي (سورة المائدة، الآية 8). فالإنسان الكامل ليس عادلاً فحسب ويحترم حقوق الجميع، بل يتجاوز العدل بـ"الإحسان" وتقديم الخير للآخرين، حتى لو لم يستحقوا ذلك بالضرورة، ويقوم بهذا الخير فقط ابتغاء وجه الله. و"الصبر" و"الشكر" هما أيضاً من السمات الأخلاقية الأساسية. الإنسان الكامل صبور في الشدائد والمصائب، وشكور على النعم والخيرات (سورة البقرة، الآية 153). وهو يعلم أن كل ما يأتي من الله هو خير وحكمة، وبالاستسلام لإرادة الله، يصل إلى السلام الداخلي والرضا التام. و"المسؤولية الاجتماعية" و"الأمانة" أيضاً من الجوانب الرئيسية للإنسان الكامل القرآني. فالإنسان بصفته "خليفة الله" في الأرض، مسؤول عن إعمارها وحفظ العدل والقسط في المجتمع (سورة البقرة، الآية 30). يحترم حقوق الآخرين، ويحفظ الأمانات، ويجعل الصدق والوفاء بالعهد واللين في التعامل مبدأً في علاقاته الاجتماعية. وكذلك، "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، أي الدعوة إلى الخير ومحاربة الشرور، هو من الواجبات الأساسية للإنسان الكامل في المجتمع، مما يدفعه نحو إصلاح المجتمع وتقدمه. و"التواضع والخشوع" أمام الله والخلق، و"الإنفاق" في سبيل الله من المال والنفس، هي من السمات الأخرى التي يذكرها القرآن للإنسان المختار. فهو لا يصيبه الكبر والغرور أبداً، ويعلم أن كل وجوده وكل ما يمتلكه هو بفضل الله، ويرى نفسه فقيراً محضاً أمام الله. كما تتجلى فيه "الرحمة والشفقة" تجاه المخلوقات، لا سيما المحتاجين واليتامى والمظلومين. فهذا الإنسان يمتلك قلباً ليناً ورؤوفاً، ويسعى دائماً لمساعدة الآخرين، ولا يغفل عن آلام ومعاناة بني جلدته. وفي الختام، فإن صورة الإنسان الكامل في القرآن هي صورة ديناميكية ومتطورة. هذا الإنسان ليس كائناً معصوماً من الخطأ، بل هو فرد يسعى باستمرار في الجهاد الأكبر مع نفسه وتزكية روحه. إنه دائم العودة إلى الله والتوبة من الأخطاء، وهذا المسار الدائم للنمو والتزكية يوصله إلى مقام القرب الإلهي ورضوانه. هذا الإنسان هو قدوة للبشرية جمعاء ليتبعوا أوامر الله، ويحققوا الكمال اللائق بهم، ويعيشوا حياة ذات معنى وهدف، تجلب لهم السعادة في الدنيا والآخرة، وترشدهم إلى الغاية الأسمى.
يُروى في گلستان سعدي أن ملكاً مرّ بجوار مسجد ومعه حاشيته الكبيرة. وفي ركن من المسجد، كان درويش متواضع ومقتنع يجلس، يرتدي ثياباً مرقعة، وراضياً بحاله. تعجب الملك من هيبة الدرويش رغم بساطته وسأله: "أيها الدرويش، ما الذي جعلك تجلس في هذا العزلة وتُعرض عن زينة الدنيا؟" فأجاب الدرويش بابتسامة دافئة: "أيها الملك، مملكتي أعظم من مملكتك. أنت ملك الناس، وأنا ملك نفسي. مملكتك ظاهرة وزائلة، أما مملكتي فباطنة وباقية. الراحة الحقيقية تكمن في القلب الذي ينير بنور الإيمان ويُروى بالقناعة، لا في الثروة والمكانة العابرة. فإذا كنت فخوراً بتاجك وعرش، فأنا أفخر بسلامي الداخلي ورضائي الإلهي." تأثر الملك بكلمات الدرويش الحكيمة، وأدرك أن كمال الإنسان لا يكمن في الرفاهية والسلطة الخارجية، بل في الغنى الروحي والتحكم في أهوائه؛ تماماً كالإنسان الذي يدعوه القرآن إلى الكمال.