القرآن يرى الهجرة كعمل مبارك للحفاظ على الدين، طلب الرزق، والنمو الروحي. في الغربة، يؤكد على الصبر، التوكل على الله، ودعم المجتمع للمهاجرين، معتبراً إياها فرصة لتقوية الإيمان.
يتناول القرآن الكريم الهجرة والغربة بنظرة عميقة ومتعددة الأوجه، تشمل الجوانب الروحية والمعنوية، وكذلك الاجتماعية والاقتصادية. هذا الكتاب السماوي غالبًا ما يرى الهجرة ليست مجرد انتقال مادي، بل حركة رمزية وروحية نحو الكمال، الحرية الدينية، واللجوء إلى الله. في العديد من الآيات، تُقدم الهجرة من أجل الحفاظ على الدين والتحرر من الظلم كعمل صالح يستوجب مكافآت إلهية عظيمة. ويبلغ هذا المفهوم ذروته في قصة هجرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وصحابته من مكة إلى المدينة، والتي لا تُعد نقطة تحول تاريخية فحسب، بل نموذجًا للمؤمنين الذين يتحملون الصعاب في سبيل الله، حتى لو تطلب الأمر مغادرة أوطانهم. أحد الأسباب الرئيسية للهجرة من منظور القرآن هو عندما يكون الفرد أو المجتمع في مكان إقامتهم غير قادرين على ممارسة شعائرهم الدينية بحرية، ويقعون تحت الظلم والاضطهاد. في مثل هذه الظروف، يشجع القرآن المؤمنين على الهجرة، مذكراً بأن أرض الله واسعة، وأنه يمكن إيجاد ملجأ آمن للعبادة والحياة الصالحة في مكان آخر. هذه الدعوة للهجرة ليست مجرد توصية، بل هي أحيانًا واجب إلهي قد يؤدي التخلف عنه إلى ظلم النفس. آيات مثل سورة النساء، الآية 97، تؤكد بوضوح على هذا الجانب، حيث تُعاتب الذين ظلموا أنفسهم ولم يهاجروا، إلا المستضعفين حقاً. تعلمنا هذه الآيات أن الحفاظ على الإيمان والكرامة الإنسانية له الأولوية، حتى لو كان الثمن هو ترك الأهل والأوطان. لكن نظرة القرآن للهجرة لا تقتصر على البعد الديني فقط. إنه يشجع أيضًا على السفر والتنقل في الأرض لطلب الرزق الحلال واكتساب العلم والمعرفة. سورة المزمل، الآية 10، تعلمنا أن هناك سعة وفضلاً كبيراً في الأرض لمن يبتغون فضل الله. هذا الجانب من الهجرة يشير إلى أن الإسلام لا يحبذ الجمود والركود، بل يعتبر الحركة والديناميكية من الأركان الأساسية للحياة السليمة والمثمرة. وبالتالي، فإن الأفراد الذين يسافرون إلى بلدان أخرى لتحسين وضعهم الاقتصادي أو للحصول على فرص حياة أفضل، يقومون من منظور القرآن بعمل مشروع ومقبول، شريطة أن تكون هذه الرحلات مصحوبة بمراعاة حدود الله والأخلاق الإنسانية. إلى جانب مفهوم الهجرة، يتناول القرآن أيضًا حالة "الغربة"، التي تعني البعد عن الوطن والأهل والأصدقاء، والشعور بالغرابة في أرض أخرى. هذه الحالة بطبيعتها مصحوبة بتحديات نفسية وروحية؛ من الوحدة والحنين إلى صعوبات التكيف مع بيئة جديدة وثقافة مختلفة. لا يتناول القرآن هذه المشاعر بشكل مباشر، لكنه يمنح المؤمنين قوة وراحة نفسية بالتركيز على الصبر والتسليم (التوكل) واللجوء إلى الله في جميع الأحوال. يُشجع الغرباء والمهاجرون على تحمل الصعاب بالتوكل على الله، مع العلم بأن الله لا يضيع أجر المحسنين أبداً. في الواقع، يمكن أن تكون الغربة فرصة لبناء الذات، وتقوية الإيمان، وزيادة الاعتماد على الخالق. هذه التجربة تجعل الإنسان يدرك أن وطنه الأصلي ليس هذه الدنيا، بل هو الدار الآخرة، وأننا جميعًا مسافرون في هذه الدنيا في طريقنا إلى الوجهة النهائية. من ناحية أخرى، يؤكد القرآن على مسؤولية المجتمع الإسلامي تجاه المهاجرين. قصة الأنصار في المدينة، الذين استقبلوا المهاجرين من مكة بأذرع مفتوحة وتآخوا معهم بتضحية وإيثار، تُعد مثالاً لا يُضاهى للتضامن الاجتماعي ورعاية حقوق المهاجرين، وقد أُشيد بها في آيات قرآنية عديدة. هذه المساعدة والمودة ليست مجرد واجب أخلاقي، بل هي عمل عبادي يجلب مكافآت دنيوية وأخروية وفيرة. يدفع القرآن المجتمع نحو اعتبار المهاجرين جزءًا لا يتجزأ من الأمة، وتقديم العون لهم في حل مشاكلهم. هذه النظرة تحوّل الغربة إلى فرصة لتقوية روابط الأخوة الإسلامية وتوسيع دائرة المحبة والتعاطف. في الختام، يمكن القول إن نظرة القرآن للهجرة والغربة هي نظرة شاملة وراقية. فهي ترى الهجرة ليس فقط استجابة لإكراهات خارجية (كالظلم والاضطهاد)، بل اختيارًا واعيًا للنمو الروحي، والحفاظ على الكرامة الإنسانية، وطلب الرزق الحلال. وفي الوقت نفسه، وإدراكًا لصعوبات الغربة، يدعو القرآن المؤمنين إلى الصبر والتوكل على الله، ويشجع المجتمع على دعم المهاجرين ومحبتهم. هذه الرؤية تحوّل الهجرة إلى فرصة لتطهير الروح، وتقوية الإيمان، ونشر العدل والتضامن في العالم. يمكن أن تكون الغربة، بكل تحدياتها، نقطة انطلاق لتحقيق مراتب روحية أعلى وفهم أعمق لمعنى الحياة، شريطة أن يسلك الإنسان هذا الطريق بإيمان وتوكل على الله.
يُحكى أن رجلاً سافر من وطنه إلى الغربة، وقد أنهكته مشقات الطريق. في إحدى الليالي، جلس وحيدًا ومكسور القلب في خان، يتنهد شوقًا لأصحابه ووطنه. رأى شيخ حكيم كان هناك حاله، وقال بلطف: "يا شاب! ألا تعلم أن الدنيا دار ممر، وأننا جميعًا مسافرون فيها؟ من يسلك طريق الله، وإن كان غريبًا، فالله رفيقه. تحلَّ بالصبر وتوكل على رحمة الحق، فإن لكل غريب ربًا، ولكل قلب ملجأ." ارتاح الرجل لكلمات الشيخ، وأدرك أن الغربة، إذا كانت مصحوبة بالصبر والتوكل، فهي بحد ذاتها طريق نحو الكمال وفهم أعمق للحضور الإلهي.