يرى القرآن الكريم الزمان فرصة محدودة في الدنيا لاكتساب زاد الأبدية. فأعمالنا في هذا الوقت القصير تحدد مصيرنا الأبدي في الآخرة، لأن الله فوق الزمان وخالقه.
في المنظور القرآني، لا تقتصر مفاهيم الزمان والأبدية على كونهما كيانين منفصلين، بل هما متصلان بعمق وأساس، وفهم هذه العلاقة ضروري لفهم هدف الخلق ومسار حياة الإنسان. يقدم القرآن الكريم الزمان ليس كمفهوم مطلق ولا نهائي، بل كمخلوق من مخلوقات الله، ووسيلة لاختبار البشر وإظهار أعمالهم. هذا العالم، الدنيا، هو عالم يتدفق فيه الزمان بشكل خطي ومحدود؛ له بداية ونهاية محددتان، وتعتبر كل لحظة فيه فرصة لزرع بذور الأبدية. على النقيض، تشير الأبدية إلى اللانهائية والخلود، وتتعلق بالحياة بعد الموت – أي الآخرة، الجنة والنار – وكذلك بالجوهر الأبدي للإله. تُفسر هذه المفاهيم في القرآن على أنها وجهان لعملة واحدة، يكمل كل منهما الآخر. يشير القرآن مراراً إلى طبيعة الحياة الدنيا الزائلة والفانية. آيات مثل "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (آل عمران: 185) أو وصف الحياة الدنيا كالمطر الذي يجعل النباتات تزدهر ثم تذبل (الكهف: 45)، توضح بجلاء محدودية الزمان وعدم استقراره في هذا العالم. هذا الزوال الزمني يحذر الإنسان من أن فرصه محدودة، وعليه استغلال كل لحظة لتجميع الأعمال الصالحة وكسب رضوان الله. في الواقع، الزمان في هذا العالم هو ميدان للعمل، مزرعة يزرع فيها الإنسان بذور أعماله وسيجنون محصولها في الأبدية. كل فعل، وكل كلمة، وحتى كل نية تتشكل خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة، سيكون لها صدى أبدي في الدار الأبدية. من هذا المنظور، لا يعد الزمان مجرد مقياس للحياة، بل يتحول إلى معيار لتقييم الأعمال. من ناحية أخرى، تُشرح الأبدية في القرآن كوجهة نهائية ومصير محتوم للبشر بعد الموت. الآخرة هي عالم تفقد فيه مفاهيم الزمان والمكان بمعناها الدنيوي. يؤكد القرآن الكريم، في وصف يوم القيامة وأحوال أهل الجنة والنار، على طبيعة الحياة الأبدية بعد الموت. على سبيل المثال، في سورة هود، الآيتين 107 و 108، يقول الله تعالى: "خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ"، مما يشير إلى أن الإقامة في الجنة والنار ستكون ما دامت السماوات والأرض قائمتين (وهو ما يشير إلى الأبدية النسبية في المنظور القرآني)، إلا ما شاء ربك. ومع ذلك، في آيات أخرى، تم ذكر الأبدية المطلقة لأهل الجنة الصالحين وأهل النار الظالمين. هذه الأبدية هي نتيجة مباشرة وفورية للأعمال التي تم إنجازها خلال الوقت المحدود في الدنيا. وهذا يعني أن كل عمل، مهما كان صغيراً، يمكن أن تكون له نتائج أبدية ولا حدود لها. العلاقة بين هذين المفهومين تتجلى أيضاً في وصف الذات الإلهية. يُعرف الله في القرآن بأنه "الأول والآخر" (الحديد: 3)؛ هو الذي كان قبل بدء الزمان وبعد نهايته، ووجوده مستقل عن أي قيد زمني. هذا يعني أن الزمان نفسه هو مخلوق خلقه الله وله إحاطة كاملة به. من هذا المنظور، فإن الرؤية الإلهية للزمان تختلف كلياً عن الرؤية البشرية. بالنسبة لله، كل الأزمنة – الماضي والحاضر والمستقبل – مكشوفة ومعلومة له أزلاً وأبداً. تمنح هذه الحقيقة الإنسان الطمأنينة والثقة بأنه حتى في مرور الزمان وتغيراته، هناك ذات ثابتة ومستقرة تحيط بكل الأمور وبيدها زمام كل شيء. باختصار، يعتبر القرآن الزمان فرصة ثمينة واختباراً للإنسان ليستغله بشكل صحيح لتأمين زاد لأبديته. هذه العلاقة ليست من جانب واحد؛ فالأبدية أيضاً تمنح الزمان معنى وتحدد الهدف النهائي لأعمال الإنسان وجهوده في هذا العالم. بدون فهم الأبدية، يتحول الزمان إلى دورة لا هدف لها ولا معنى. ولكن بوجود الأبدية، تتحول كل لحظة من الزمان الدنيوي إلى قطعة من أحجية أكبر تشكل مصير الإنسان الأبدي. لذلك، يدعو القرآن الإنسان إلى التدبر في مرور الزمان والاستعداد للدار الأبدية، ويعلمه أن كل لحظة من الحياة الدنيا هي فرصة لا مثيل لها لبناء مستقبل أبدي.
ذات يوم، كان الحكيم سعدي يتجول في بستانه، متفكراً في مرور الحياة. فسأله أحد تلاميذه: "يا أستاذ، لماذا يتعلق الناس بهذا العالم الزائل وينسون الدار الباقية؟" فابتسم سعدي وقال: "يا بني، قصة الإنسان هي كقصة مسافر ينزل في خان على الطريق، فيفرد متاعه ويستقر فيه وكأنه بيته الأبدي. بينما هو غافل عن أن الوجهة الحقيقية أمامه، وأن هذا الخان مجرد مكان للراحة قصيرة. فكلما تعلق قلبه بهذا المنزل الزائل، ابتعد عن زاد سفره، وحينما يصيح بوق الرحيل، سينطلق فارغ اليدين وندماناً. والعاقل هو من يأخذ من خان الدنيا قدر حاجته فقط، ويصرف بقية همته في توفير الزاد للرحلة التي لا عودة منها." هذه القصة، بلهجة ودية، تذكرنا بأن وقتنا في هذا العالم قصير جداً، ويجب أن نستغله أقصى استغلال للاستعداد للحياة الأبدية.