عدم السعادة رغم النعم غالبًا ما ينبع من نقص الشكر والغفلة عن ذكر الله. السعادة الحقيقية تكمن في الاتصال بالخالق وإدراك الطبيعة الزائلة للدنيا، وليس في امتلاك الماديات وحدها والتعلق المفرط بها.
إن الشعور بعدم السعادة رغم وجود العديد من النعم هو تجربة إنسانية عميقة، يجد فيها الكثيرون أنفسهم في مفارقة حيث لا تتحول الراحة المادية، والصحة الجيدة، والعلاقات المحبة، أو النجاح المهني إلى سلام داخلي حقيقي ورضا. من منظور إسلامي، المتجذر بعمق في تعاليم القرآن الكريم، غالبًا ما ينبع هذا الشعور من سوء فهم جوهري لما تعنيه السعادة الحقيقية وأين توجد حقًا. يقدم القرآن إرشادات عميقة حول كيفية تنمية شعور دائم بالبهجة والسكينة، بغض النظر عن الظروف الخارجية، ويشير إلى أن السعادة الحقيقية تكمن في الاتصال العميق بالخالق وإدراك المكانة الصحيحة للدنيا، وليس مجرد تكديس الماديات. قد يكون هذا الشعور بعدم الرضا في الواقع دعوة إلهية للفرد للتأمل وإعادة تقييم أولوياته. أحد الأسباب الرئيسية لعدم الشعور بالسعادة، بالرغم من وفرة النعم، هو عدم كفاية الشكر. يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا على أهمية الاعتراف بنعم الله وتقديرها. يقول الله تعالى في سورة إبراهيم (14:7): "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ". هذه الآية تسلط الضوء على مبدأ إلهي: أن الشكر ليس مجرد فضيلة أخلاقية بل آلية روحية تفتح أبواب المزيد من النعم، والأهم من ذلك، شعورًا أعمق بالتقدير لما يمتلكه المرء بالفعل. عندما يفشل الشخص في الاعتراف وشكر واهب كل النعم، قد يبقى قلبه غير مكتفٍ، ويبحث باستمرار عن المزيد، مما يؤدي إلى حالة دائمة من عدم الرضا. تصبح النعم مجرد ممتلكات بدلاً من أن تكون علامات على الكرم الإلهي، فتفقد قدرتها على إلهام الفرح. يشمل تنمية الشكر التأمل الواعي حتى في أصغر الرحمات – القدرة على التنفس، والرؤية، والسمع، ودفء المنزل، وطعم الطعام، وراحة وجود الأحباء، والصحة الجيدة، والأمان، وما إلى ذلك. بدون هذا الاعتراف النشط والقلبي، يصبح القلب محجوبًا، غير قادر على إدراك سعة فضل الله، وبالتالي غير قادر على استخلاص الفرح الحقيقي والدائم منه. هذا ليس "عدًا سطحيًا للنعم" بل حالة روحية عميقة حيث يكون القلب متناغمًا مع المصدر الإلهي لكل خير، ومع كل نعمة، يتعزز اتصاله بالخالق. يعلمنا القرآن أن كل خير لدينا هو من الله، وهذا الإدراك يجب أن يملأ القلب بالتواضع والفرح، لا الاستياء. هذه العملية النشطة لـ "الشكر" تقاوم الميل البشري الطبيعي نحو الغفلة وعدم الرضا، وتذكرنا بالطبيعة العابرة للممتلكات الدنيوية والمصدر الأسمى لكل رزق وراحة، وهذا التذكير بحد ذاته هو مصدر للسلام. فالشخص الشاكر يختبر غنى القلب وعدم الحاجة حتى في أقل ما يملكه. مبدأ قرآني آخر حاسم هو ذكر الله. الراحة الحقيقية للقلب وسكينته توجدان في الاتصال بخالقه. يقول الله تعالى في سورة الرعد (13:28): "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ". هذه الآية حجر الزاوية في علم النفس والروحانية الإسلامية. عندما ينغمس الأفراد بشكل مفرط في السعي وراء المكاسب الدنيوية، والمهن، والمكانة الاجتماعية، أو حتى المتعة الزائلة، فإنهم غالبًا ما يهملون البعد الروحي لوجودهم. يترك هذا الإهمال فراغًا عميقًا ومؤلمًا في القلب لا يمكن لأي قدر من النجاح المادي، أو الاعتراف الاجتماعي، أو الممتلكات الوفيرة أن يملأه. تتوق الروح البشرية بطبيعتها وفطرتها إلى الاتصال بالإله. عندما يكون هذا الاتصال ضعيفًا أو غائبًا، يمكن أن يسود شعور بالفراغ والقلق ونقص مستمر في الرضا، حتى في خضم الازدهار الخارجي والظاهري. يعمل الذكر، الذي يشمل الصلاة (الفرائض والنوافل)، وتلاوة القرآن، والدعاء، والتأمل المستمر في صفات الله وقدرته، كمرساة روحية. إنه يؤسس الفرد، ويذكره بهدفه الأسمى، ويوفر مصدرًا للقوة والراحة والطمأنينة يتجاوز تقلبات الدنيا وتحدياتها. من خلال الذكر، يجد القلب موطنه الحقيقي، ويصبح هذا الاستقرار الداخلي أساسًا للسعادة الحقيقية التي لا تعتمد على العوامل الخارجية والظروف المؤقتة. إنه معايرة مستمرة لبوصلة المرء الداخلية نحو الإله، بعيدًا عن المشتتات والمتع الزائلة للعالم المادي. عندما يكون القلب في سلام من خلال الذكر، تبدو التحديات أصغر، وتتضخم النعم في تأثيرها، لأن الفرد يفهم مصدر كل شيء وهدفه الأسمى. هذا السلام الداخلي يقلل من الاعتماد المفرط على النتائج المادية ويسمح للمرء بالحفاظ على هدوئه حتى عند مواجهة النقص والصعوبات. علاوة على ذلك، يقدم القرآن منظورًا عميقًا حول طبيعة الحياة الدنيا. يصف القرآن مرارًا "الدنيا" بأنها مؤقتة، ومتعة زائلة، ومجرد لهو ولعب، واختبار. في سورة الحديد (57:20)، يقول الله تعالى: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ". هذه الآية تذكير قوي بأنه إذا كانت سعادة المرء كلها مبنية على تجميع أو الحفاظ على النعم الدنيوية، فإن خيبة الأمل حتمية. "الدنيا" مصممة لتكون عابرة؛ متعها مؤقتة، وممتلكاتها عرضة للزوال والفقدان. عندما يربط الشخص قلبه بالكامل بشيء مؤقت، يصبح عرضة لألم رحيله الحتمي أو قلق فقدانه المحتمل. وبالتالي، لا يمكن العثور على الرضا الحقيقي في السعي وراء المزيد والمزيد من الممتلكات المادية أو النجاحات الدنيوية الزائلة. بدلاً من ذلك، يكمن في فهم الطبيعة الحقيقية لـ "الدنيا" كوسيلة لتحقيق غاية – حقل لزرع البذور للآخرة الأبدية. هذا المنظور يحرر القلب من السعي الدؤوب وراء المكاسب المادية ويسمح له بالعثور على السلام في السعي وراء ما هو دائم عند الله. لا يتعلق الأمر بالتخلي عن الدنيا، بل بوضعها في منظورها الصحيح – كأداة، وليس كهدف بحد ذاته. هذا الانفصال عن "الدنيا" كمصدر أسمى للسعادة يسمح بتقدير أعمق للنعم الإلهية دون أن يصبح المرء مستعبدًا لها، ويمكّن الشخص من الاستمتاع بالنعم دون أن ترتبط سعادته بها. في نهاية المطاف، السعادة الحقيقية تتوقف على نظرة الفرد ووجهة نظره للكون؛ وكلما كانت هذه النظرة أعمق وأكثر إلهية، كانت جذور السعادة أقوى. (تقريبا 980 كلمة)
يُحكى أن ملكًا كان يمتلك كنوزًا وفيرة وثروات لا تُحصى، لكنه لم يكن سعيدًا، وكان يتنقل من حزن إلى آخر. في أحد الأيام، تحدث إلى وزير حكيم قائلًا: "لماذا مع كل هذه النعم، لا يجد قلبي الطمأنينة ولا تقترب مني السعادة؟" فأجاب الوزير: "أيها الملك! بدلاً من أن تشكر على ما تملك، فإنك تتحسر على ما لا تملك. القلب الحكيم لا يجد السعادة في المال والجاه، بل في راحة الروح والشكر لله. رأيت درويشًا نائمًا على الأرض، لا يملك سوى ثياب ممزقة، ولكنه كان يضحك ويقول: 'الحمد لله الذي لا أملك هم الثروة ولا حزن فقدانها.' استوعب الملك نصيحة الوزير وأدرك أن السعادة الحقيقية تكمن في الداخل، لا في الخارج، ومنذ ذلك الحين انشغل بالشكر وتذوق الطعم الحقيقي للسعادة.