عدم القدرة على "أن تكون على طبيعتك دائمًا" من منظور قرآني ينبع من الابتعاد عن الفطرة النقية، والتأثر بالنفاق والرياء، والاستسلام للنفس الأمارة. الحل القرآني يكمن في الاستقامة على طريق الحق وإخلاص النية والعمل لله.
يا صديقي العزيز، هذا سؤال يتردد في أعماق كثير منا وله جذور عميقة في النفس البشرية والتفاعلات الاجتماعية. للوهلة الأولى، قد يبدو أن القرآن الكريم لم يتناول بشكل مباشر هذا المفهوم الحديث "كن أنت دائمًا". ولكن بتدبر وتأمل في الآيات الإلهية، نكتشف أن المفاهيم القرآنية تتناول بأبعادها العميقة والجوانب الداخلية والخارجية لشخصية الإنسان، وتقدم حلولًا لتحقيق التكامل والأصالة الحقيقية. في الواقع، القلق من "لماذا لا يمكنني أن أكون على طبيعتي دائمًا؟" في الثقافة القرآنية يمكن أن يُفهم على أنه عدم الانسجام بين الظاهر والباطن، أو الخوف من حكم الآخرين، أو اتباع وساوس النفس الأمارة والشيطان، التي تُبعد الإنسان عن فطرته الإلهية. يقول القرآن الكريم إن الإنسان خُلق على "فطرة" نقية. هذه الفطرة هي الطبيعة الأصلية النقية التي يولد بها كل إنسان، وتحتوي على ميل فطري إلى معرفة الله، والخير، والبر، وطلب الحقيقة. في سورة الروم، الآية 30، نقرأ: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". هذه الآية تبين أن "ذاتنا الحقيقية" هي الفطرة الإلهية التي تقودنا نحو التوحيد والأعمال الصالحة. عندما لا نستطيع أن "نكون على طبيعتنا"، فإننا في الواقع نبتعد عن هذه الطبيعة الأصيلة ونقع تحت تأثير عوامل تتعارض مع هذه الفطرة. أحد أهم الأسباب التي تجعل الإنسان لا يستطيع أن يكون على طبيعته دائمًا هو الضغوط والتوقعات الاجتماعية. في بعض الأحيان، من أجل القبول، أو للحفاظ على المكانة، أو لتجنب الرفض، نضطر إلى ارتداء قناع وإظهار سلوك يتعارض مع ما نشعر به حقًا في داخلنا. هذه الظاهرة، يدينها القرآن بشدة بكلمة "نفاق". النفاق يعني تحديدًا عدم تطابق الظاهر مع الباطن؛ أي أن الإنسان يعلن شيئًا لا يؤمن به قلبه أو يقوم بعمل بنية مختلفة. سورة النساء، الآية 142 تصف حال المنافقين هكذا: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا". تبين هذه الآية أن السعي لـ "إظهار" الذات للآخرين، بدلًا من "الوجود" الحقيقي لله، يدفع الإنسان إلى حالة من عدم الاستقرار والقلق ويمنعه من تحقيق السلام الحقيقي. بالإضافة إلى الضغوط الخارجية، تلعب الصراعات الداخلية دورًا مهمًا في هذا التفكك. النفس الأمارة، أي النفس المتمردة التي تأمر بالسوء، تسعى باستمرار لدفعنا نحو الشهوات والرغبات الدنيوية الزائلة. اتباع هذه الرغبات يمكن أن يُبعد الإنسان عن قيمه الأساسية والإلهية ويجعله يقوم بأعمال تتناقض مع "ذاته الحقيقية" ومع إيمانه. كما أن وساوس الشيطان هي عامل آخر يشجع على الخداع والتظاهر من أجل الانحراف عن طريق الحق. في سورة الكهف، الآية 28، يوصي الله نبيه بأن يصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا". تشير هذه الآية إلى أهمية مصاحبة من يساعدنا على التمسك بـ "ذاتنا الحقيقية" وتجنب من يشجعنا على التظاهر والغفلة. الحل القرآني للتغلب على هذه المشكلة يكمن في "الثبات" و"الإخلاص". يأمر القرآن المؤمنين بأن يكونوا مستقيمين وثابتين في طريق الحق وفي اتباع الأوامر الإلهية. سورة هود، الآية 112 تقول: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ". الاستقامة تعني أن يلتزم الإنسان بمبادئه وقيمه في جميع الظروف، سواء في الخلوة أو في العلن، وألا يتخلى عن الحقيقة خوفًا من حكم الآخرين أو وساوس النفس. هذا الثبات هو ما يمنح الإنسان التكامل والأصالة ويجعله قادرًا على أن يكون "ذاته" دائمًا؛ أي الإنسان الذي خلقه الله ودعاه إليه. الإخلاص هو مفتاح آخر لـ "كونك على طبيعتك دائمًا". الإخلاص يعني إخلاص النية والعمل لله وحده، بعيدًا عن أي رياء أو تظاهر. عندما يقوم الإنسان بكل عمل طلبًا لرضا الله وحده، لا يقلق بعد ذلك من حكم الناس ولا يرى حاجة للعب دور لجذب انتباههم. هذا التحرر من قيود نظرة الآخرين يسمح للإنسان بالعيش بسلام تام وصدق داخلي، وأن يكون حقًا ما هو عليه. وتزكية النفس هي عملية مستمرة، يقوم فيها الإنسان، من خلال معرفة الذات ومحاربة الميول النفسية والشيطانية، بإزالة طبقات الشوائب عن فطرته النقية ويقترب أكثر من "ذاته الحقيقية". في النهاية، "كونك على طبيعتك دائمًا" من منظور قرآني، يعني العيش بصدق كامل، وتناغم الظاهر والباطن، والاستقامة في طريق الحق، وتصفية النوايا لله. هذا المسار يؤدي إلى السلام والأصالة والرضا الإلهي ويحرر الإنسان من عبودية آراء الآخرين.
يُحكى أن درويشاً صالحاً رأى درويشاً آخر يتحدث بشكل مختلف في مجالس الكبراء عنه في مجالس العامة. ابتسم الدرويش الصالح وقال: "يا أخي، أدعوك إلى الحقيقة. إذا لم يكن قلبك ولسانك واحدًا، فلن تجد السلام أبدًا وستظل تعاني دائمًا من قلق سقوط قناعك. ولكن إذا اتحد باطنك وظاهرك، فلن تحتاج للقلق بعد الآن وستكون قادرًا على أن تكون 'على طبيعتك' دائمًا." تعلمنا هذه الحكاية أن السلام والأصالة الحقيقيين يكمنان في وحدة الداخل والخارج، وإلا فإن الإنسان سيسعى دائمًا لإخفاء حقيقته.