يعتمد تأثير الكلمات الطيبة على استعداد المستمع وحالته الداخلية، بما في ذلك عدم الكبر، وعدم اتباع الهوى والغفلة، وكذلك المشيئة الإلهية. القلوب المختومة أو المتكبرة أو الغافلة لا تقبل النصيحة، لأنها فقدت القدرة على إدراك الحق وقبوله.
السؤال عميق جداً حول لماذا لا تؤثر الكلمات الطيبة أحياناً كما هو متوقع في المستمعين. هذه الظاهرة لا تقتصر على العلاقات الإنسانية فحسب، بل شوهدت عبر التاريخ وحتى في دعوة الأنبياء. القرآن الكريم، بنظرته العميقة والحكيمة، يذكر عدة أسباب لهذه الظاهرة، والتي غالباً ما تعود إلى الحالة الداخلية للمتلقي واستعداده الروحي، وليس فقط إلى جودة الكلمة نفسها. يعلمنا هذا المنظور القرآني أن تأثير الكلام عملية ثنائية الطرف، تعتمد على كل من المتكلم والمستمع. أحد أهم الأسباب التي يشير إليها القرآن هو مسألة "ختم القلوب" أو "قسوة القلوب". في عدة آيات، يذكر الله تعالى أنه بسبب إنكار وعصيان بعض الأفراد المستمر، فإن قلوبهم قد خُتم عليها أو وُضع عليها حجاب. على سبيل المثال، في سورة البقرة، الآية 7، يقول الله تعالى: "خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، ولهم عذاب عظيم). هذا الختم على القلوب هو نتيجة لاختيار البشر أنفسهم وإصرارهم على الباطل. فعندما يتجاهل الناس الحقيقة مراراً ويستمرون في طريق الضلال، يفقدون تدريجياً القدرة على إدراك الحقيقة وقبولها. تصبح قلوبهم كالأرض القاحلة والصلبة التي لا تُنبت شيئاً مهما زُرع فيها من بذور طيبة. تعكس هذه الحالة وضعاً نفسياً يفقد فيه الفرد القدرة على التمييز بين الحق والباطل، ولا يمكنه بعد ذلك استقبال الرسائل البناءة وتحليلها. تصبح ملكاتهم الروحية خاملة، مما يجعلهم غير متأثرين حتى بأفصح وأصدق المواعظ. وهذا ليس فعلاً عشوائياً من الله، بل هو نتيجة طبيعية لرفضهم المستمر، وهو قانون إلهي يحكم الاضمحلال الروحي لمن يعرضون عن الهداية عمداً، مفضلين أهواءهم على الحق الإلهي. سبب آخر هو "الكبر والغرور". بعض الأفراد، بسبب كبرهم وغرورهم، يرفضون قبول الحق، حتى لو أدركوه. إبليس، الشيطان، هو خير مثال على هذا الكبر؛ فمع علمه ومعرفته بالحق، رفض السجود لآدم وعصى الأمر الإلهي (سورة ص، الآيات 74-75). عندما يرى الفرد نفسه أعلى من الآخرين أو يعتقد أنه يعرف كل شيء، فلا يترك مجالاً لسماع كلام جديد أو للتأثر به. هؤلاء الأفراد، حتى لو سمعوا نصيحة جيدة، يؤولونها على أنها جهل أو ضعف من قبل الناصح، وبالتالي لا تدخل الكلمة الطيبة إلى قلوبهم أبداً. الغرور عقبة كبيرة في طريق الهداية وقبول الحق، لأن الإنسان المغرور يعتقد أنه لا يحتاج إلى الهداية ويمكنه إيجاد الطريق الصحيح بمفرده. هذا الاكتفاء الذاتي، النابع من الكبر، يعميهم عن الحكمة الخارجية، مهما بلغت من عمق، ويوقعهم في دائرة من خداع الذات والخطأ. "اتباع هوى النفس والشهوات الدنيوية" يشكل أيضاً عائقاً كبيراً أمام تأثير كلام الحق. في سورة الفرقان، الآية 43، يقول القرآن: "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا" (أرأيت من اتخذ إلهه هواه؟ أفأنت تكون عليه وكيلاً؟). عندما يصبح الإنسان عبداً لرغباته النفسية وشهواته الدنيوية، ويفضل اللذات الزائلة على الحقيقة والخلاص الأخروي، فلن يكون لديه أذن صاغية للنصح والإرشاد. قلبه مشغول بأشياء تتناقض مع كلام الحق، وبالتالي، أي كلام خير يصله يدخل من أذن ويخرج من الأخرى، لأنه غير مستعد للتخلي عن أهوائه لقبول ذلك. هذا الصراع الداخلي بين الرغبات والتوجيه الإلهي غالباً ما يؤدي إلى رفض واعي أو لاواعي لأي شيء يهدد أسلوب حياتهم المفضل، بغض النظر عن جودته أو حكمته الجوهرية. هؤلاء الأفراد يعطون الأولوية للإشباع الفوري، مما يؤدي إلى إسكات صوت الضمير الداخلي والدعوات الخارجية إلى الصلاح. "الغفلة وعدم الانتباه" من بين العوائق الأخرى. يغرق الكثير من الناس في حياتهم اليومية لدرجة أنهم يظلون غافلين عن الحقائق الأكبر والأعمق لوجودهم والكون. قد يكونون متمسكين بالمسائل المادية والملاهي الدنيوية، ولا يجدون فرصة للتأمل في الأحاديث العميقة والموجهة. يشير القرآن الكريم إلى هذا في سورة الروم، الآية 7: "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ" (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون). تسبب هذه الغفلة أنهم حتى لو سمعوا أفضل الكلمات، فإنهم لا يدركون معناها الحقيقي أو لا يولونها الأهمية اللازمة. ينصب تركيزهم بالكامل على العالم الزائل والمباشر، مما يدفعهم لتجاهل التحذيرات الروحية أو الرؤى الفلسفية التي تتحدث عن واقع أوسع. إنهم في سبات روحي عميق، ويحتاجون إلى صدمة كبيرة بدلاً من مجرد كلمات لطيفة لإيقاظهم. "النفاق والازدواجية" يمثلان حاجزاً آخر. المنافقون هم أفراد يتظاهرون بالإيمان ويستمعون إلى الحق، ولكنهم في الباطن ينكرونه بل ويسخرون منه. قلوبهم مريضة، وبدلاً من الشفاء، يزداد مرضهم. في سورة البقرة، الآيات 8-10، نقرأ: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴿٨﴾ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿٩﴾ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴿١٠﴾" (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين. يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون). بسبب عدم الإخلاص الداخلي، لا تستفيد هذه الفئة أبداً من الكلام الحق. قبولهم الظاهري مجرد واجهة يخفي وراءها الرفض والعداء، مما يجعلهم غير قابلين للتأثير الروحي الحقيقي، حيث أن هدفهم الأساسي ليس الهداية بل التلاعب أو الحفاظ على الذات من خلال الخداع. نقطة أخرى مهمة يؤكد عليها القرآن هي "الإرادة والمشيئة الإلهية". لقد كلف الأنبياء والأولياء بتبليغ رسالة الحق، ولكن الهداية النهائية وتأثيرها هي بيد الله وحده. في سورة القصص، الآية 56، يقول تعالى: "إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين). تظهر هذه الآية أن حتى النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم)، الذي قال أجمع وأفضل الكلمات، لم يستطع هداية الجميع. هذا لا يعني أن الله لا يهدي أحداً بدون سبب، بل إن الهداية الإلهية تستند إلى استحقاقات الأفراد واستعداداتهم الداخلية. فمن كان قلبه مستعداً ومتقبلاً، ينير بنور الهداية الإلهية، أما من أغلق قلبه على الحق، فإنه يحرم من هذا النور. وبالتالي، فإن جهد المتكلم يجب أن يكون مصحوباً دائماً بالأمل والتوكل على الله، فالقلوب بيده. إذن، واجب المتكلم هو تبليغ الحقيقة بحكمة وبصيرة، ويجب ألا ييأس من عدم التأثير الفوري. ففي بعض الأحيان، قد لا يكون لكلام طيب تأثير في لحظته، ولكنه قد يظهر أثره بمرور الزمن وتغير الظروف الروحية للمستمع، مثل البذرة التي سقطت في أرض غير مناسبة ولكنها نمت لاحقاً بهطول المطر. الصبر والصدق في القول والنوايا الحسنة، من الصفات الهامة للمتكلم. إيمان المتكلم وإخلاصه يضفيان على كلماته مصداقية ونوراً، وإن كان هذا النور لا يضيء إلا القلوب المستعدة. في الختام، يمكن القول إن تأثير الكلمات الطيبة يشبه نور الشمس؛ فالنور يشرق باستمرار ولا تتغير طبيعته، لكن درجة امتصاصه تختلف من جسم لآخر. بعض الأجسام تعكس الضوء، وبعضها يمتصه، وبعضها لا يظهر أي رد فعل على الإطلاق. قلوب الناس أيضاً كذلك؛ فبعضها مستعد لقبول نور الحقيقة، وبعضها يقاوم، وبعضها الآخر مغلق تماماً ومظلم. وهنا، يتكامل دور المتكلم (الذي يجب أن يوصل الرسالة بحكمة وصبر) ودور المستمع (الذي يجب أن يفتح قلبه للقبول)، إلى جانب المشيئة الإلهية، لكي تكون الكلمات الطيبة مؤثرة حقاً. لذلك، تقع المسؤولية الأساسية في قبول الحقيقة أو عدم قبولها، في نهاية المطاف، على عاتق المستمع نفسه، الذي يجب أن يفتح قلبه لاستقبالها.
في يوم من الأيام، في بلاط أحد الملوك، كان حكيم مشهور بعلمه وفصاحته يلقي نصائحه. كان يتحدث بكلمات عذبة وعميقة لدرجة أنها كانت تلين الحجر. تأثر الحاضرون في المجلس بحديثه، وذرفت الدموع من أعينهم، باستثناء أحد المقربين الذي كان يضحك باستمرار، ولا تظهر عليه أي علامات تأثر. استغرب الملك حاله وسأله: "يا أيها المقرب، ما بالك لا ترتوي من بحر الحكمة هذا ولا تستفيد من هذه الجواهر؟" فأجاب المقرب بلامبالاة: "يا أيها الملك، مهما كانت كلمات الحكيم جيدة ومناسبة، فما فائدتها إذا كانت أذن المستمع صماء وقلبه ضعيف الأساس؟ إنه كمثل المطر يهطل على أرض صخرية؛ مع أنه رحمة إلهية، إلا أنه لا يُنتج إلا الطين. إذا لم يكن القلب مهيئاً لاستقبال الحكمة، فلن تؤثر فيه آلاف الحكم التي تصب عليه." فحزن الملك لهذا الرد، وأدرك الحقيقة أن المشكلة أحيانًا ليست في الكلمات، بل في قلب أغلق أبوابه أمام الحقيقة.