الخوف من القضاء الإلهي علامة على يقظة الضمير تجاه مسؤولياتنا، وينبع من مفهوم المحاسبة في يوم القيامة ووعينا بذنوبنا. يجب أن يتوازن هذا الخوف مع الرجاء في رحمة الله الواسعة ليقود إلى التقوى والأعمال الصالحة بدلاً من اليأس.
السؤال: "لماذا أخشى القضاء الإلهي؟" هو استفسار عميق وهادف يتناول جوهر الإيمان وعلاقة الإنسان بالخالق المتعال. إن هذا الشعور بالخوف، في كثير من الحالات، ليس مجرد رد فعل بشري طبيعي، بل هو علامة على الوعي واليقظة الضميرية تجاه عظمة الخالق وجدية مسؤولياتنا في هذه الحياة الدنيا. القرآن الكريم يفسر هذا الخوف ضمن مفهوم أوسع يُعرف بـ "التقوى". فالتقوى ليست مجرد شعور بالخوف؛ بل هي ضبط النفس، الورع، والمراقبة الدائمة للأعمال والنوايا في محضر الله. إن هذا الخوف، على عكس المخاوف العادية، ليس خوفًا مشلاً أو باعثًا على اليأس؛ بل هو خوف بناء يدفع الإنسان نحو الخيرات ويزجره عن السيئات، ويرشده نحو الكمال والرضا الإلهي. إنه في جوهره احترام عميق ويقظة مستمرة لحضور الله وعلمه المطلق. أحد الأسباب الرئيسية لهذا الخوف هو الفهم العميق لمفهومي "المحاسبة" و "يوم القيامة". يذكر القرآن مرارًا وتكرارًا يوم القيامة، اليوم الذي لا يملك فيه أحد سوى الله أن يحكم على مصير الآخرين، وسترى كل نفس جزاء عملها. في ذلك اليوم، تُحاسب جميع الأعمال، صغيرة كانت أم كبيرة، حتى لو كانت بمقدار ذرة، كما جاء في سورة الزلزلة: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (99:7-8). إن الوعي بهذه الحقيقة — أن لا شيء يخفى على الله، وأن لكل عمل، خيرًا كان أم شرًا، عاقبة عادلة — يولد بشكل طبيعي شعورًا بالقلق والخوف المشروع في قلب الإنسان. يتساءل المرء: هل قمت بواجباتي تجاه الله، تجاه نفسي، وتجاه الآخرين؟ هل اجتنبت المحرمات؟ هل راعيت حقوق الآخرين؟ هذه الأسئلات الأساسية والمخاوف الناتجة عنها هي الجذور الأساسية للخوف من القضاء الإلهي. علاوة على ذلك، يدرك الإنسان ضعفه ونقائصه المتأصلة. نعلم أننا كائنات خطّاءة، وأن ارتكاب الذنوب والأخطاء جزء لا مفر منه في حياتنا. عند مواجهة العدالة الإلهية المطلقة، التي لا ظلم فيها ولا يخفى عنها أي خطأ، يتساءل المرء كيف يمكنه أن يحاسب على أعماله. إن هذا الشعور بالنقص، والخطيئة، والضعف، خاصة عندما يقترن بعظمة الله اللانهائية، وعلمه المطلق بخفايا القلوب، وقدرته على العقاب، يمكن أن يخلق خوفًا عميقًا في قلب المؤمن. تشير العديد من الآيات في القرآن إلى أن البشر في هذه الدنيا يخضعون لاختبار وامتحان، وأن كل ما يفعلونه يُسجل ويوثق ليُقدم في يوم الحساب. هذا التسجيل الدقيق للأعمال والأقوال يعزز الشعور بالمسؤولية، وبالتالي يظهر الخوف من يوم الحساب، مما يدفع الأفراد في النهاية إلى التفكير في كيفية إعداد أنفسهم لذلك اليوم الهام. ومع ذلك، فإن هذا الخوف ليس سوى جانب واحد من العملة، ويجب ألا يؤدي إلى اليأس والقنوط. فالقرآن الكريم، بينما يؤكد على العدالة والمحاسبة، يشير أيضًا إلى رحمة الله ومغفرته التي لا حدود لها. في الواقع، يجب أن يتوازن الخوف من القضاء الإلهي دائمًا مع "الأمل" في عفو الله ورحمته. هذا التوازن الدقيق والحيوي بين "الخوف والرجاء" هو أحد الركائز الأساسية للإيمان في الإسلام. يُعرف الله بنفسه على أنه "أرحم الراحمين" و "غفور رحيم". وفي آيات مثل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر 39:53)، يفتح الله باب الأمل لعباده. إن هذه الوعود الإلهية هي التي تغرس الأمل في نفوس البشر وتحول الخوف من القضاء إلى دافع للتوبة، وتصحيح الأخطاء، والسير على الطريق المستقيم. إن الخوف من الله ليس خوفًا من "عدو" ينوي الإيذاء، بل هو خوف من "الحقيقة" و "العدالة المطلقة". هذا الخوف يدفع الإنسان إلى السير بحذر أكبر في الحياة، وحماية حقوق الآخرين، والالتزام بالواجبات الإلهية، والابتعاد عن المحرمات. إنه بمثابة آلية حماية تساعد المؤمن على البقاء على الصراط المستقيم وتجنب الانحرافات. بعبارة أخرى، الخوف من القضاء الإلهي هو قوة دافعة لأداء الأعمال الصالحة واجتناب الذنوب. عندما نعلم أن كل لحظة وكل عمل تحت إشراف الله، نسعى جاهدين لأن نكون في أفضل حالاتنا، ونتصرف بأخلاق، ونسير في طريق الخير. وهذا الوعي وضبط النفس يؤديان إلى نتائج إيجابية عديدة في الدنيا والآخرة، مما يسهم في الارتقاء الروحي والأخلاقي للإنسان. الخلاصة أن الخوف من القضاء الإلهي هو ظاهرة طبيعية تمامًا وحتى ضرورية في مسار الإيمان، بشرط أن يقترن بالأمل في رحمة الله ومغفرته التي لا حدود لها. هذا الخوف يدفع الإنسان نحو التوبة، وإصلاح النفس، والسعي لرضا الله، لا نحو اليأس. بل يذكّره بأن كل عمل، مهما كان صغيرًا، يحمل أهمية في يوم الحساب، وأن السبيل الوحيد لإيجاد الطمأنينة في ذلك اليوم هو السعي في هذه الدنيا لكسب رضا الله ومغفرته. إن هذا التوازن بين الخوف والرجاء يضمن الصحة الروحية والإيمانية للمؤمن، ويمكّنه من السير نحو ربه بثقة وأمل، ولكن في الوقت نفسه بحذر وحيطة. هذا النهج لا يقلل من الخوف فحسب، بل يحوله إلى أداة قوية للنمو الروحي والتقرب إلى الله. وفي نهاية المطاف، من يخاف الله، لا يخاف شيئًا آخر، لأنه يعلم أن ملجأه الحقيقي والأخير هو في يد ربه، وبالتوكل عليه، يمكنه تجاوز كل الصعاب.
يُروى أنه كان هناك تاجر، إلى جانب تجارته المزدهرة، كان أحيانًا يغفل عن الحلال والحرام. ذات يوم، مرض واقترب أجله. استولى خوف عظيم على قلبه، ليس من الموت نفسه، بل من المحاسبة التي تنتظره أمام الله. كان يسأل نفسه باستمرار: مع كل هذه الذنوب والأخطاء، كيف سأعبر صراط الله؟ زاره درويش حكيم. روى التاجر، مضطربًا، خوفه من القضاء الإلهي. ابتسم الدرويش بلطف وقال: "يا صديقي! إن القاضي المطلق هو نفسه الرحيم الغفور. نعم، عدالته قائمة، ولكن رحمته أيضًا لا حدود لها. هل تتذكر أنك قمت بعمل خالص في حياتك لم يكن إلا لرضا الله، دون توقع أي مكافأة؟" فكر التاجر قليلاً وتذكر ليلة كان فيها في شدة، فأطعم أيتام جاره سرًا دون أن يعلم أحد. قال الدرويش: "هذا العمل الصالح وحده، إذا اقترن بتوبة صادقة، سيفتح لك بابًا من رحمة الله اللامتناهية. اخش عظمة ذنوبك، نعم، ولكن لا تيأس أبدًا من عظمة مغفرته. فإنه يحب الذين يعودون إليه بقلب منكسر وتائب." وجد التاجر سلامًا في هذه الكلمات، وبقلب مليء بالأمل والتوبة، أسلم روحه لخالقه.