الخوف من صمت الله ينبع من سوء فهم حضوره الدائم وحكمته الإلهية وطريقة استجابته. الله سميع قريب دائمًا، وهذا الشعور يمكن أن يكون فرصة لنمو الإيمان والتوكل.
إن الشعور بالخوف من صمت الله أو عدم استجابته هو تجربة إنسانية عميقة يواجهها الكثيرون في رحلتهم الروحية. ينشأ هذا الشعور غالبًا عندما يدعو المرء، أو يأمل، أو ينتظر علامة على المساعدة الإلهية والحضور، ولكن يبدو أنه لا يتلقى شيئًا. في مواجهة المشاكل، الأمراض، فقدان الأحباء، أو حتى في لحظات الارتباك والشك الوجودي، قد يشعر الإنسان أن الله قد تخلى عنه أو أن دعواته لا تُسمع. ولكن لفهم هذا الشعور بعمق أكبر وكيفية التعامل معه، يجب أن نعود إلى تعاليم القرآن الكريم المضيئة. فالقرآن لا يتحدث أبدًا عن 'صمت الله' بمعنى الغياب أو عدم السمع؛ بل على العكس، يؤكد باستمرار على حضور الله اللامحدود، وعلمه الواسع، وسمعه لجميع الدعوات والهمسات. من أهم المفاهيم القرآنية التي تبدد هذا الخوف هو إدراك حقيقة أن الله تعالى حاضر ومراقب دائمًا لأحوالنا. يوضح القرآن الكريم بجلاء أن الله أقرب إلينا من حبل الوريد، ولا يخفى عن علمه شيء. في سورة ق (50:16)، نقرأ: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾. هذه الآية وحدها كافية لإلغاء أي فكرة عن صمت الله أو بُعده. فهو لا يسمع دعواتنا الظاهرة فحسب، بل يعلم كل فكرة، وكل همسة، وكل شعور خفي في أعماق وجودنا. إذن، إذا كان الله حاضرًا وسامعًا دائمًا، فلماذا نشعر أحيانًا أن دعواتنا لا تُستجاب أو أننا نُقابل بالصمت؟ يجيب القرآن على هذه المسألة أيضًا. أحد الإجابات الهامة يتعلق بالحكمة الإلهية. فالله تعالى يعمل بناءً على حكمته ومصلحته اللامحدودة، واستجاباته ليست دائمًا وفقًا لرغباتنا وتوقعاتنا. أحيانًا تكون استجابة الدعاء في تأخيرها، لأن الوقت المناسب لم يحن بعد، أو أن الاستجابة المطلوبة تتخذ شكلاً مختلفًا عما نتخيله. قد يبعد الله عنا شيئًا نظنه خيرًا، ولكنه في الحقيقة شر، أو على العكس، يعطينا شيئًا يبدو غير مرغوب فيه في البداية، ولكنه يحتوي على خير عظيم. يقول تعالى في سورة البقرة (2:216): ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. هذه الآية تشير إلى أن فهمنا المحدود للخير والشر قد يجعلنا نفسر استجابة الحكمة الإلهية لنا على أنها 'صمت' أو 'عدم استجابة'. علاوة على ذلك، يعلمنا القرآن أن الحياة هي ساحة للاختبار والابتلاء. المصائب، الصعوبات، ولحظات الانتظار، كلها جزء من هذا الامتحان الإلهي. يختبر الله البشر بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس (البقرة 2:155). في هذه اللحظات، يوضع إيمان الإنسان على المحك. قد يكون الشعور بـ'صمت' الله في مثل هذه الظروف فرصة لنمو الصبر والتوكل وزيادة الارتباط القلبي بالخالق. في سورة البقرة (2:153) يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. تذكرنا هذه الآية أنه في اللحظات الصعبة واستجابة لمشاعر الوحدة، فإن اللجوء إلى الصبر والصلاة هو ما يقربنا من الله ويؤكد لنا أنه لا يتخلى أبدًا عن الصابرين. نقطة أخرى حاسمة هي طبيعة الدعاء في الإسلام. الدعاء ليس مجرد طلب للحاجات، بل هو في حد ذاته عبادة وإظهار للعبودية. عندما ندعو، فإننا نتواصل مباشرة مع خالق الكون؛ ندعوه، ونعترف بضعفنا أمام قوته اللامحدودة، ونظهر أملنا وتوكلنا عليه. حتى لو لم تكن النتيجة الظاهرية لدعائنا كما نشتهي، فإن مجرد هذا الفعل يحمل أجرًا روحيًا عظيمًا ويؤدي إلى القرب الإلهي. قال الإمام الصادق (ع): 'إن الله عز وجل يحب دعاء المؤمن إذا أخّر حاجته، ليلحّ في الدعاء'. يشير هذا الحديث إلى أن الإلحاح في الدعاء، حتى مع عدم تلقي إجابة فورية، هو علامة على ثبات الإيمان والتوكل الذي يحبه الله. للتغلب على هذا الخوف من الصمت، هناك خطوات عملية متأصلة في التعاليم القرآنية: 1. تقوية اليقين بالحضور الإلهي: تذكر دائمًا أن الله قريب دائمًا ولا يغفل أبدًا. قم بتلاوة الآيات المتعلقة بعلم الله وإحاطته وتدبر فيها. 2. الصبر والتوكل: اعلم أن استجابة الله قد تأتي في وقت لا نتوقعه أو بشكل لا يفهمه إدراكنا. التوكل يعني الثقة الكاملة في تدبير الله وحكمته. 3. زيادة الذكر وذكر الله: يكمن السلام القلبي الحقيقي في ذكر الله. ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد 13:28). الذكر يرفع الحجب بيننا وبين الله ويقوي الشعور بالقرب. 4. التأمل في آيات الآفاق والأنفس: النظر إلى خلق الله والنظام الذي يحكم الكون يكشف عن علامات قدرته وحكمته ورحمته، ويزيد يقيننا في حضوره وتدبيره. 5. تهذيب النفس وإصلاح العلاقة مع الله: أحيانًا يكون الشعور بالبعد نتيجة لتقصيرنا في الواجبات الدينية أو ارتكاب الذنوب. التوبة والعودة إلى الله هي الخطوة الأولى لإصلاح هذه العلاقة ورفع الحجب. 6. طلب البصيرة: اطلب من الله أن يفتح أعيننا على حكمته وعلاماته حتى نرى ونفهم استجاباته في أشكال مختلفة. في الختام، يمكن أن يكون الخوف من صمت الله نقطة تحول ونمو روحي. هذا الخوف هو دعوة للتعمق في فهم العلاقة مع الله، وممارسة الصبر، وزيادة التوكل. يؤكد لنا القرآن أن الله لا يتخلى أبدًا عن عباده، وهو سميع بصير عليم دائمًا، حتى عندما نختبر 'الصمت' في قمة اليأس أو الانتظار. هذا الصمت الظاهري ليس علامة على الغياب، بل ربما فرصة لسماع الصوت الداخلي، ورؤية الحكم الإلهية الخفية.
يُروى في روضة سعدي أن درويشًا، رغم سنوات من العبادة والزهد، لم يحقق أبدًا ما تمناه، وظن أن دعواته لم تُستجب. في يوم من الأيام، وفي قمة اليأس، ذهب إلى الصحراء بقلب مكسور. في طريقه، وصل إلى بئر كانت عصفورة عطشى جاثمة على حافتها، لا تستطيع الوصول إلى الماء. رثى الدرويش لحال العصفورة، وبجهد كبير، التقط حجرًا وألقاه في البئر حتى ارتفع الماء، وشربت العصفورة حتى ارتوت. في تلك اللحظة بالذات، رن صوت في أذن الدرويش: 'يا عبدنا، لسنوات كنت ترى نفسك تتبعنا، بينما كنا نريد منك أن تتبع الآخرين. عندما نسيت همك وسعيت لإرواء عطش عصفورة، قضينا حاجتك.' أدرك الدرويش أن الصمت الظاهري أحيانًا هو نداء الحكمة، وأن الإجابة على الدعاء تكمن في مكان آخر: في الإحسان، في الصبر، وفي فتح القلب للآخرين.