الشعور بالبعد عن الله رغم العبادة غالبًا ما ينشأ عن الغفلة أو الذنوب أو غياب حضور القلب. للتغلب على ذلك، يجب التركيز على الذكر والتفكر والإخلاص والتوبة والأعمال الصالحة، فالله قريب دائمًا.
يا صديقي العزيز، إن الشعور بالبعد عن الله على الرغم من أداء العبادات هو تجربة يواجهها العديد من المؤمنين في رحلتهم الروحية. هذا الشعور لا يعني بالضرورة أن الله بعيد عنك حقًا، فالرب القدير يقول صراحة في القرآن الكريم إنه أقرب إلينا من حبل الوريد، وإنه يسمع دعاء عباده دائمًا. غالبًا ما يكون هذا الإحساس علامة على حاجة أعمق داخلنا لإقامة اتصال أكثر حميمية ومعنى مع الخالق، وفرصة للتأمل وإعادة تقييم جودة علاقتنا الروحية. القرآن الكريم، هذا الكتاب الهادي، يقدم حلولًا واضحة لفهم هذا الشعور والتغلب عليه. أحد أهم الأسباب التي يمكن أن تغذي هذا الشعور بالبعد هو 'الغفلة' و'غياب حضور القلب' في العبادات. أحيانًا، تتحول عباداتنا من عمل قلبي مفعم بالحب والاهتمام إلى مجرد عادة يومية أو واجب شكلي. عندما نصلي، هل نحن حقًا حاضرون أمام الله ونتحدث معه؟ أم أن عقولنا مشغولة بأمور الدنيا؟ يقول القرآن الكريم في سورة المؤمنون، الآيتين 1 و 2: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ". الخشوع هو حالة يتجه فيها قلب الإنسان وعقله بالكامل نحو الله أثناء الصلاة، وهذا الحضور القلبي يؤدي إلى قرب حقيقي وشعور بالسكينة. إذا كانت عباداتنا تفتقر إلى هذا الخشوع، فقد نشعر أننا نقوم بحركات فقط دون أن نغرس فيها الروح، وبالتالي لا نختبر الثمرة الروحية والشعور بالقرب. عامل آخر يمكن أن يشكل حجابًا بيننا وبين الله هو 'الذنوب والمعاصي'. تعمل الذنوب كصدأ على القلب، تبعد عنه نور الهداية والرحمة الإلهية. كلما ارتكبنا المزيد من الذنوب، زاد سمك هذا الصدأ، وضعف اتصالنا القلبي بالله، حتى لو قمنا بأداء عباداتنا الظاهرية. يشير القرآن الكريم بوضوح في سورة المطففين، الآية 14: "كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ". هذه الآية تبين أن لأعمالنا تأثيرًا مباشرًا على قلوبنا وقدرتنا على إدراك الحقيقة. التوبة الصادقة والاستغفار هما السبيل لإزالة هذا الصدأ وإعادة بناء الاتصال القلبي. يقول الله في سورة الزمر، الآية 53: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". هذه الآية تفتح لنا بابًا من الأمل والمغفرة، وتظهر أن الله مستعد دائمًا لقبول عودتنا. بالإضافة إلى ذلك، فإن 'التعلقات الدنيوية المفرطة' و'نسيان الآخرة' يمكن أن تصرفنا عن ذكر الله وتكثف هذا الشعور بالبعد. عندما تتوجه كل اهتماماتنا وتطلعاتنا وجهودنا نحو الأمور المادية والملذات الدنيوية الزائلة، لا يتبقى مكان في قلوبنا لذكر الله والتفكر في آياته. يحذر القرآن الكريم من هذا الترتيب الخاطئ للأولويات في سورة التوبة، الآية 24، حيث يقول: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ". تذكرنا هذه الآية بأن حب الله ورضاه يجب أن يكون له الأسبقية على كل شيء آخر في الحياة. إذا تغيرت هذه الأولوية، فمن الطبيعي أن نشعر بالفراغ والبعد. للتغلب على هذا الشعور بالبعد وتحقيق القرب والسكينة الحقيقيين، يقدم القرآن الكريم حلولًا عملية: * ذكر الله المستمر: يقول الله في سورة الرعد، الآية 28: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ". الذكر ليس مجرد تكرار أوراد، بل يشمل أي عمل يذكرنا بالله في حياتنا، من الذكر القلبي واللساني إلى التفكر في خلقه. المداومة على الذكر وحضور القلب فيه يصقل القلب ويقوي شعور القرب. * التفكر والتدبر في آيات القرآن والعلامات الإلهية: القرآن الكريم مليء بالدعوات إلى التفكر. في سورة آل عمران، الآيتين 190 و 191، يقول: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ". عندما نتفكر في عظمة الخلق والمعاني العميقة للقرآن، ندرك عظمة وقوة الله أكثر، ويزداد شعورنا بالخشوع والحاجة إليه، وهذا بحد ذاته طريق إلى القرب الإلهي. * الإخلاص في العمل: يجب أن نؤدي العبادة فقط لرضا الله، وليس لجذب انتباه الناس أو تحقيق مصالح دنيوية. تقول سورة البينة، الآية 5: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ". الإخلاص هو جوهر العبادة، وبدونه تكون أعمالنا بلا روح وغير فعالة. * التوبة والاستغفار المستمر: كلما شعرت بالذنب أو البعد، عد فورًا إلى الله واطلب مغفرته. التوبة الصادقة لا تغفر الذنوب فحسب، بل تطهر القلب من الشوائب وتهيئه لاستقبال النور الإلهي. هذه عملية مستمرة في حياة المؤمن. * زيادة الجدية في أداء الواجبات وتجنب المحرمات: طاعة الأوامر الإلهية هي علامة على صدق الإيمان، وكلما التزمنا بها أكثر، زادت رضى الله عنا. هذا الرضا يجلب تلقائيًا شعورًا بالقرب والسكينة. * زيادة الأعمال الصالحة والإحسان إلى الخلق: خدمة عباد الله وتلبية احتياجاتهم هي من أفضل سبل التقرب إلى الله. قال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): "الخلق عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله". تذكر أن هذا الطريق رحلة تتطلب الصبر، والمثابرة، والجهد المستمر. الله قريب ودائمًا ينتظر عودة عباده وإقبالهم عليه. هذا الشعور بالبعد قد يكون نداءً إلهيًا يدعوك لاستكشاف أعمق لذاتك وتحسين جودة علاقتك الروحية. بصدقك، وتوكلك على الله، والتزامك بتعاليم القرآن، يمكنك تحويل هذا الشعور إلى قرب وسكينة أعمق، وتجد نور الحضور الإلهي في قلبك.
جاء شاب إلى شيخ حكيم وقلبه مضطرب، وقال: "يا أستاذ، إنني أقوم بجميع عباداتي وأورادي، لكن قلبي لا يجد الطمأنينة، وكأن الله بعيد عني. أين المشكلة؟" ابتسم الشيخ الحكيم بلطف وقال: "يا بني، أعمالك الظاهرية هي مثل وعاء. ولكن ماذا يملأ وعاءك؟ إذا كان وعاؤك مليئًا بالرغبات الدنيوية أو الأحقاد أو الغفلة، فلن يدخل حلاوة العبادة إليه أبدًا. أولاً، أفرغ وعاء قلبك، ونقِّ نيتك، ودع قلبك يحضر مع لسانك. فالعبادة الحقيقية ليست مجرد تحريك الشفاه، بل هي تحريك الروح نحو خالقها. فكما أن الشجرة الجافة، مهما سُقيت، لا تثمر حتى تكون جذورها سليمة، كذلك العبادة الظاهرية لا تؤتي ثمارها الروحية حتى يكون القلب حيًا بالإخلاص وذكر الله." فهم الشاب وبدأ بتطهير داخله، ولم يمض وقت طويل حتى شعر بدفء القرب الذي طالما بحث عنه في قلبه.