الشعور بالفراغ في أوج النعم يشير إلى إهمال الهدف الحقيقي للخلق ونسيان ذكر الله. السلام الحقيقي يتحقق فقط من خلال الاتصال العميق بالخالق واستخدام النعم بما يرضيه.
إن السؤال العميق والمثير للتفكير: "لماذا أشعر بالفراغ في ذروة النعم؟" يتطلب استكشافًا عميقًا للذات البشرية وفحصًا دقيقًا لتعاليم القرآن الكريم. القرآن، بصفته كتاب هداية ونور، يتناول مرارًا طبيعة الحياة الدنيا، والهدف من خلق الإنسان، ومكانة النعم. إن الشعور بالفراغ، حتى عندما يحيط المرء بالوفرة والراحة، هو ظاهرة شائعة يمكن فهمها بالكامل من منظور قرآني. غالبًا ما يكون هذا الشعور مؤشرًا على نقص أعمق، أو فراغ روحي لا يمكن ملؤه بأي قدر من الثروة المادية، أو المكانة الدنيوية، أو المتع الزائلة. يصرح القرآن الكريم بوضوح أن الغاية الأساسية من خلق الإنسان هي عبادة الرب ومعرفته. في سورة الذاريات، الآية 56، يقول الله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). هذه الآية الأساسية توضح أن وجودنا له غاية إلهية. إذا غفل الأفراد عن هذا الهدف الأساسي، فإنهم سيختبرون حتمًا إحساسًا بالفراغ وعدم المعنى، حتى بعد تحقيق جميع طموحاتهم الدنيوية. إن النعم المادية والفرص هي مجرد وسائل لتحقيق هذا الغرض الإلهي، وليست غاية في حد ذاتها. إذا أخطأ المرء في اعتبارها الهدف الأسمى، فإن الرضا والسلام الحقيقي سيظلان دائمًا بعيد المنال. وهذا يشير إلى حقيقة عميقة؛ الروح البشرية، على عكس الجسد، ليست ذات طبيعة مادية ولا يمكن أن تشبع بالماديات. احتياجات الروح هي من جنس الاتصال، والمحبة، والمعرفة، والغرض الإلهي، والتي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال العلاقة مع الخالق. وبالتالي، كلما غرق الشخص أكثر في الماديات وابتعد عن بعده الروحي، كلما شعر بفراغ أكبر، حتى لو كان يمتلك كنوز الدنيا. أحد الأسباب الرئيسية لهذا الفراغ هو إهمال الذكر أو تذكر الله. يشدد القرآن بشكل كبير على ذكر الله والطمأنينة التي تنبع منه. في سورة الرعد، الآية 28، يقول الله تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب). توضح هذه الآية بجلاء أن المصدر الأساسي للسلام الداخلي والرضا لا يكمن في جمع الثروات أو الملذات الدنيوية، بل في اتصال قلبي عميق مع الخالق. عندما يجد الإنسان نفسه في قمة النعم ولكنه يهمل ذكر الله، ينفصل قلبه عن مصدر سلامه الحقيقي، مما يؤدي إلى الشعور السائد بالفراغ. هذا الفراغ هو، في جوهره، صرخة من الروح، تشير إلى حاجتها الملحة للتغذية الروحية وإعادة الاتصال، وتحذر الفرد من أنه يسير في طريق خاطئ. إن ذكر الله لا يقتصر على مجرد نطق اسمه؛ بل يشمل التذكر الدائم لحضوره، والتفكر في آياته، والعمل بأوامره، والعبادة الخالصة. هذا الحضور الإلهي الدائم في القلب يمنح الإنسان بصيرة تمنعه من فقدان الهدف الأساسي وسط صخب الدنيا، ويعلمه أن كل شيء فانٍ إلا ذاته. يشير القرآن أيضًا إلى الطبيعة الفانية والزائلة للحياة الدنيا. في سورة الحديد، الآية 20، يصف الله حالة هذا العالم على النحو التالي: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاتُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). هذه الآية بمثابة تذكير حاسم بأنه على الرغم من أن النعم الدنيوية قد تبدو جميلة ومغرية، إلا أنها بطبيعتها غير مستقرة ولا يمكن أن تكون مصدرًا دائمًا للسعادة والطمأنينة. إن التشبث بها ووضعها كأقصى الطموحات يؤدي حتمًا إلى خيبة الأمل والفراغ، لأن لا شيء في هذا العالم العابر يمكنه سد الفراغ الأبدي داخل الروح البشرية. هذا المنظور القرآني يساعد الإنسان على التحرر من قيود الطمع والجشع، ويدرك أن الاستقرار والسلام الحقيقي لا يكمنان إلا في الارتباط بالحقيقة المطلقة. علاوة على ذلك، في العديد من آيات القرآن، تُقدم النعم كوسيلة لاختبار البشرية. يمنحنا الله النعم ليرى كيف سنكون شاكرين وكيف سنستخدم هذه الهبات بطرق ترضيه. إذا أدت هذه النعم إلى الغطرسة، ونسيان الله، أو الظلم والطغيان، فإنها لا تجلب أي سلام؛ بل يمكن أن تصبح مصدرًا للضيق والعقاب. الشكر الحقيقي لا يعبر عنه بالكلمات فقط، بل بالأفعال أيضًا - باستخدام النعم للخير، ولصالح المجتمع، ولمساعدة الآخرين. عندما تُستخدم النعم فقط للإشباع الشخصي والمزيد من التراكم، فإنها تزيد من إحساس عدم المعنى والفراغ. هذا الفراغ يمكن أن يكون تحذيرًا لإعادة تقييم كيفية استخدام النعم وتوجيهها نحو أهداف أسمى وأكثر روحانية. يعلمنا الإسلام أن كل نعمة تحمل مسؤولية، وأن الكمال الحقيقي يكمن في العطاء والتضحية. الطريق للخروج من هذا الشعور بالفراغ ينطوي على العودة إلى الله وتجديد الصلة به. هذه العودة تشمل تقوية الإيمان، وأداء العبادات بحضور قلبي مخلص، والتفكر في الآيات الإلهية وعلامات قدرته في الكون، وخدمة خلق الله. إن الانخراط في الأعمال الخيرية، ومساعدة المحتاجين، والإنفاق مما وهبنا الله، يمكن أن يجلب إحساسًا عميقًا بالهدف والرضا الداخلي. هذه الأعمال تغذي الروح البشرية، وتحررها من قيود المادية. يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا على أهمية الإنفاق في سبيل الله ومساعدة الآخرين، واصفًا ذلك بأنه مصدر للنمو والبركات. إن الانخراط في الأنشطة الروحية والاجتماعية لا يفيد الآخرين فحسب، بل يمنح الفرد أيضًا شعورًا بالقيمة والمعنى، ويحرره من القفص الذي بنته المادية. في الختام، إن الشعور بالفراغ في ذروة النعم هو دعوة إلهية للاستيقاظ. يشير هذا الشعور إلى أن روحنا تتجاوز الماديات ولديها احتياجات أعمق لا يمكن تلبيتها إلا من خلال الاتصال بخالق الكون والعيش حياة تتوافق مع رضاه. توفر هذه اللحظات فرصة لا تقدر بثمن للتأمل، وإعادة تقييم الأولويات، وإعادة معايرة بوصلة الحياة نحو الحقيقة المطلقة. بهذا النهج، لا تكون النعم الدنيوية عقبات أمام السعادة الحقيقية، بل يمكن أن تصبح أدوات قوية لتحقيق الكمال الحقيقي والسلام الدائم. من الأهمية بمكان أن نتذكر أن هذا العالم هو أرض زراعة للآخرة، وما نزرعه هنا، سنحصده في الدار الأخرى. إذا زرعنا بذور العدمية والتعلق بالزائل، فلن يكون حصادنا سوى الحسرة والفراغ. ولكن إذا زرعنا بذور الإيمان، والأعمال الصالحة، والشكر، وخدمة الخلق، فسيكون حصادنا رضا إلهيًا وسلامًا أبديًا. لذلك، هذا الشعور بالفراغ هو تحذير ودعوة إلى الروحانية واكتشاف المعنى الحقيقي للحياة، يذكرنا بأن قلب كل إنسان كنز إلهي لا يضيء إلا بنور ذكر الله.
يُروى أنه كان هناك ملك ثري وقوي دائمًا ما كان قلقًا ومضطربًا، على الرغم من كنوزه وجيوشه الكثيرة. التقى بدرويش فقير يعيش بسلام في كوخ صحراوي، لا يملك شيئًا سوى الطمأنينة الداخلية. سأل الملك الدرويش: "كيف لي، مع كل هذا الملك، أن أكون مضطربًا، وأنت، بلا شيء، في سلام؟" فأجاب الدرويش بابتسامة لطيفة: "لأنك تجمع، وأنا أتخلى. أنت تخشى فقدان ما تملك، وأنا لا أملك شيئًا أخسره." تظهر هذه القصة الجميلة من گلستان سعدي أن السعادة والسلام الحقيقيين لا يكمنان في وفرة النعم الخارجية، بل في غنى الروح وقلب خالٍ من التعلقات الدنيوية، وأن الطمأنينة الحقيقية توجد في القناعة والتحرر من قيود المادية.