الشعور بأنك لست 'كافيًا' لله ينبع غالبًا من سوء فهم لرحمته ومغفرته اللامتناهية. الله يعلم ضعف الإنسان ويقدر صدقك وجهدك أكثر بكثير من الكمال الذي لا يمكن بلوغه، وهو دائمًا مستعد لقبول توبتك وخطواتك الصغيرة نحوه.
الشعور بأن المرء "ليس كافياً" لله هو إحساس عميق وشائع يراود الكثير من المؤمنين في رحلتهم الروحية. إنه شعور ينبع أحياناً من الرغبة الصادقة في بلوغ الكمال في العبادة والطاعة، وأحياناً أخرى من الإحساس بالذنب تجاه الأخطاء والتقصير. ومع ذلك، فإن النظرة القرآنية لهذا الشعور تقدم لنا منظوراً مختلفاً تماماً، فهو يؤكد على رحمة الله الواسعة، وحكمته في خلق الإنسان بضعفه وقوته، وتقديره للإخلاص والاجتهاد أكثر من الكمال الذي لا يمكن بلوغه للبشر. أولاً، يجب أن نتذكر دائماً رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء. إن الله سبحانه وتعالى هو "الرحمن الرحيم"، و"الغفور الودود". هذه الصفات الإلهية تعني أن الله يحب عباده، ويريد لهم الخير، وهو دائماً مستعد لقبول توبتهم ومغفرة ذنوبهم مهما عظمت. إن الشعور بعدم الكفاية قد يكون فخاً من الشيطان ليقنط الإنسان من رحمة ربه، فيوقفه عن السعي نحو التقرب من الله. ولكن القرآن يدعونا صراحةً إلى عدم اليأس من رحمة الله، بل يدعونا للعودة إليه بكل ذنوبنا وتقصيرنا. يقول الله تعالى في سورة الزمر (الآية 53): "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". هذه الآية الكريمة هي بمنزلة نداء مباشر لكل نفس أرهقتها ذنوبها، لتعلن أن باب المغفرة مفتوح على مصراعيه. لا يهم حجم الخطايا أو عددها؛ ما يهم هو الصدق في التوبة والعودة إلى الله. الله لا يحتاج إلى "كمال" أعمالنا بقدر ما يحتاج إلى صدق قلوبنا وتوجهنا إليه. هو يعلم ضعفنا البشري، ولهذا فتح لنا باب التوبة والاستغفار. ثانياً، فهم طبيعة الإنسان كما صورها القرآن الكريم يعيننا على تجاوز هذا الشعور. لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ولكنه أيضاً خلقه بضعف وقابلية للخطأ والنسيان. نحن لسنا ملائكة لا يخطئون، بل نحن بشر نكسب ونخطئ، نتوب ونعود. والله يعلم ذلك تماماً. هذه الطبيعة البشرية هي جزء من الحكمة الإلهية في الخلق. القرآن يوضح أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. يقول تعالى في سورة البقرة (الآية 286): "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ". هذا يعني أن الله لا يطلب منا ما لا نستطيع فعله، ولا يحاسبنا على ما هو خارج عن طاقتنا. إذاً، الشعور بأنك لست "كافياً" قد ينبع من وضع معايير غير واقعية لنفسك، معايير قد لا تكون حتى متوافقة مع ما يطلبه الله منك. الله يريد منا السعي والإخلاص والتوبة عند الخطأ، وليس الكمال المطلق الذي لا يستطيعه إلا هو. ثالثاً، عملية التوبة والرجوع إلى الله هي عملية مستمرة وليست حدثاً لمرة واحدة. إن الإسلام مبني على فكرة التطور الروحي المستمر، والتحسن التدريجي. كلما أخطأنا، كلما تعلمنا درساً، وكلما فتحنا باباً جديداً للتوبة والعودة إلى الله. الله يحب التوابين ويحب المتطهرين. يقول تعالى في سورة النساء (الآية 110): "وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا". هذه الآية تعلمنا أن الطريق إلى المغفرة ممهد وواضح. مجرد طلب المغفرة بصدق يكفي لتجد الله غفوراً رحيماً. هذا يؤكد أن الله يقدر الإنابة والعودة إليه أكثر من تقديره لأي أعمال "كاملة" قد يراها الإنسان في نفسه. إن الشعور بعدم الكفاية يجب أن يكون دافعاً للتحسين، وليس سبباً لليأس أو التوقف عن السعي. فكلما شعرنا بالتقصير، كلما كان ذلك تذكيراً بمدى حاجتنا إلى الله ومدى كرمه ورحمته. إذن، كيف يمكننا التغلب على هذا الشعور؟ 1. ركز على رحمة الله: بدلاً من التركيز على أخطائك، ركز على سعة رحمة الله. كلما شعرت باليأس، تذكر آيات الرحمة والمغفرة. 2. أدِّ ما تستطيع بصدق: لا تبالغ في مطالبة نفسك بالكمال. افعل ما بوسعك من الطاعات بأخلص النوايا، وتوكل على الله في الباقي. الله ينظر إلى النية والصدق أكثر من العدد أو الحجم. 3. تب باستمرار: اجعل التوبة جزءاً من روتينك اليومي. استغفر الله على الدوام، حتى لو لم تشعر بأنك ارتكبت ذنباً كبيراً. الاستغفار يطهر القلب ويقوي العلاقة بالله. 4. اطلب المساعدة من الله: توكل على الله في كل أمورك. اطلب منه العون في طاعته، وفي تجاوز ضعف نفسك. 5. تذكر قيمة الجهد لا النتائج فقط: الله لا يحاسبك فقط على النتائج النهائية، بل على الجهد المبذول في سبيل مرضاته. الأخطاء هي جزء من رحلة التعلم. في الختام، إن شعورك بأنك لست "كافياً" لله هو في الحقيقة دعوة للتأمل في عظمة الله ورحمته. الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى عبادته منا، بل نحن من نحتاج إليه. هو الغني الحميد، ونحن الفقراء إليه. قيمتنا لا تأتي من كمالنا، بل من إيماننا به، وصدق توجهنا إليه، واعترافنا بضعفنا البشري، ثم طلب العون والمغفرة منه. كن على ثقة بأنك "كافٍ" في عين الله عندما تسعى إليه بقلب سليم، حتى لو كانت خطواتك متعثرة. إنه يحب التوابين، ويحب الذين يتطهرون، وهذا يشمل كل من يخطئ ثم يعود إليه بصدق. فالمهم هو الاستمرار في السير على الطريق، مهما كانت العثرات، واليقين بأن الله معك، وأنه أقرب إليك من حبل الوريد، ورحمته سبقت غضبه.
في الأزمنة الغابرة، كان هناك رجل مؤمن وتقي، رغم عباداته الكثيرة وأعماله الصالحة، كان يشعر في قلبه دائمًا بوسواس: هل أنا حقًا كافٍ لربي؟ هل عباداتي تليق بمقام الله العلي؟ ذات يوم، ذهب متألمًا إلى شيخ حكيم وأفصح له عن سر قلبه. ابتسم الشيخ بلطف وروى: 'كان هناك إسكافي فقير، يداه خشنتان من العمل وثيابه بالية. كان يقضي أيامه في إصلاح الأحذية ولياليه في الدعاء المتواضع وقلبه مليء بالندم على تقصيره. كان يقول لنفسه: 'يا ربي، أنا مجرد ذرة تراب وأعمالي ضئيلة جدًا! كيف يمكنني أن أكون كافيًا لجلالك اللامتناهي؟' وفي إحدى المرات، استهزأ تاجر ثري، مشهور بصدقاته الكبيرة وورعه الظاهري، بصلوات هذا الإسكافي البسيطة. ولكن في منامٍ، جاء نداء للإسكافي: 'الهمس الصادق لهذا الإسكافي، الذي ينبع من تواضعه واعتماده، يصل إليّ أعلى من أعلى صرخات ذلك التاجر، فإن الله ينظر إلى القلوب لا إلى حجم الأعمال الظاهري. هو لا يريد كمالك، بل يريد رجوعك الصادق إليه.' استيقظ الإسكافي من هذا الحلم، ورغم أن تواضعه لم يزل، إلا أن سلامًا عميقًا ملأ وجوده، لأنه أدرك أن شعوره بعدم الكفاية هو بالتحديد ما فتح له باب الرحمة الإلهية اللامتناهية.