الشعور بالتخلف غالبًا ما ينبع من المقارنات الدنيوية التي يحذر منها القرآن، مؤكدًا أن الحياة الدنيا زائلة وأن النجاح الحقيقي يكمن في الآخرة والسلام الداخلي بذكر الله.
الشعور بالتخلف ومقارنة الذات بالآخرين هو تجربة إنسانية شائعة يواجهها الكثير من الأفراد على مدار حياتهم. في عالم اليوم السريع، مع الوصول المستمر إلى حياة الآخرين وإنجازاتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، يمكن أن يتفاقم هذا الشعور. فالأفراد الناجحون، والممتلكات الفاخرة، والتقدم المهني الملحوظ، والعلاقات المثالية للآخرين تُعرض بسهولة، مما يدفعنا لا شعوريًا إلى المقارنة. ولكن من منظور القرآن الكريم، فإن هذا الشعور ليس فقط غير طبيعي، بل له جذور عميقة في الوساوس الشيطانية والتعلقات الدنيوية التي تُبعد الإنسان عن مساره الأساسي، وهو اكتساب الرضا الإلهي والسلام الداخلي. القرآن الكريم يوضح صراحةً الطبيعة الفانية والزائلة للحياة الدنيا، ويقدم تحذيرات جدية بشأن الغرق فيها والتنافس على الإنجازات المادية. يقول الله تعالى في سورة التكاثر (102:1-2): "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ". هذه الآيات تُظهر بوضوح أن ميل الإنسان إلى جمع المزيد والتنافس مع الآخرين في الأمور المادية يمكن أن يشغله لدرجة تجعله غافلاً عن الهدف الأساسي من خلقه ومصير حياته. هذا التنافس اللانهائي لا يجلب السلام، بل يؤدي إلى القلق والحسرة والشعور الدائم بالنقص، حتى لو حقق الفرد ظاهرياً العديد من النجاحات. يحذرنا القرآن من هذه الدائرة اللامتناهية من التنافس الدنيوي، لأن هذا المسار يعيق الارتقاء الروحي والمعنوي ويُوقع الإنسان في الظواهر الزائلة. إنها تذكير عميق بأن الإشباع الحقيقي لا يكمن في التفوق على الآخرين في سباق مؤقت، بل في فهم الهدف الأعمق لوجودنا. علاوة على ذلك، في سورة الحديد (57:20) يقول الله تعالى: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ". تقدم هذه الآية صورة دقيقة جداً لطبيعة الدنيا: عرض زائل، لعبة بلا هدف، وتنافس للحصول على أشياء لا تحمل قيمة دائمة. مقارنة النفس بالآخرين في هذا الميدان، كالمشاركة في لعبة لا معنى للفائز الحقيقي فيها، لأن كل شيء غير مستقر ومؤقت. عندما نقيس أنفسنا بمعايير مادية وخارجية للآخرين، فإننا في الواقع نقع في هذه اللعبة الخادعة للدنيا ونهمل القيم الحقيقية. هذه الآية تذكرنا بأن التركيز على الإنجازات الدنيوية والمقارنة المستمرة، أشبه بمراقبة نبات ينمو بسرعة، ثم يصفر ويجف، ثم يتفتت؛ كل هذه الأشياء خادعة ولا تؤدي إلى شيء. نقطة أخرى أساسية في القرآن هي إعطاء الأولوية للآخرة على الدنيا. في سورة الأعلى (87:16-17) نقرأ: "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى". هذه الآيات تحذرنا من أن لا تكون أعيننا موجهة فقط نحو هذه الحياة الزائلة. غالبًا ما ينبع الشعور بالتخلف من تصور أننا أقل من الآخرين في تحقيق النجاحات الدنيوية. لكن القرآن يرفض هذا المعيار ويعتبر النجاح الحقيقي في رضا الله ومكافآت الآخرة، التي هي دائمة لا تزول. فالحياة الدنيا ليست سوى مزرعة لزرع الآخرة، وما يُزرع في هذه الدنيا يُحصد في الآخرة. لذا، كلما شعرت أنك متخلف عن ركب الدنيا، تذكر أن هناك قافلة أهم وأكثر بقاءً تنتظرك، وعليك أن تُعد لها زاداً. بالإضافة إلى ذلك، يلعب مفهوم الرزق والقدر في الإسلام دوراً مهماً في التخفيف من الشعور بالتخلف. يعلمنا القرآن أن لكل إنسان رزقاً مقدراً من الله، ولا داعي للحسد أو التنافس عليه. هذا لا يعني أن الإنسان لا ينبغي أن يسعى، بل يعني أن نتيجة الجهود وما يحصل عليه الفرد يعتمد في النهاية على المشيئة الإلهية. هذا الفهم يمنح الإنسان السكينة، لأنه يعلم أن إنجازات الآخرين لا تنقص من رزقه شيئاً، وأن القلق الزائد على ما يفتقده لا يمنعه من شكر ما لديه. التوكل على الله والثقة في حكمته في تدبير الأمور هو مفتاح التحرر من فخ المقارنات. فالله قدّر كل شيء لكل إنسان بأفضل صورة ممكنة، وعلينا أن نرضى بهذا القدر الإلهي. للتخلص من هذا الشعور، يقدم لنا القرآن حلولاً عملية: الصبر والصلاة والشكر وذكر الله. الصبر على وساوس المقارنة والشكر على النعم الموجودة هي ممارسات أساسية. الصلاة، كعمود للاتصال بالخالق، تساعد الإنسان على إعادة تحديد أولوياته وإيجاد الطمأنينة في ذكر الله. كما جاء في سورة الرعد (13:28): "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ". عندما يطمئن القلب بذكر الله، فإنه لا يحتاج إلى تأكيد خارجي أو مقارنة مع الآخرين، لأنه وجد الغنى الحقيقي في داخله وفي اتصاله بمصدر القوة والرحمة اللامتناهي. لذلك، فإن التركيز على العبادات، وطلب العلم النافع، والسعي لمساعدة خلق الله، يمكن أن يُبعد العقل عن المقارنات العبثية ويوجهه نحو أهداف أكثر قيمة. في الختام، يمكن أن يكون هذا الشعور بالتخلف علامة لإعادة تقييم قيم وأهداف الحياة. هل السعادة الحقيقية تكمن في اكتساب المزيد من المال والمكانة، أم في الرضا الداخلي، وراحة البال، والاتصال الأعمق بالخالق؟ القرآن يرشدنا نحو الأخير. بدلاً من النظر إلى ما يملكه الآخرون أو ما حققوه، من الأفضل أن نركز على ما نملك، وعلى نعم الله في حياتنا، وعلى تقدمنا الشخصي. كل إنسان له مساره وقدراته الفريدة. قد يتقدم أحدهم في مجال ما، وأنت في مجال آخر. المهم هو السعي في طريق الحق، وأداء الواجبات الإلهية والإنسانية، وأن يكون القلب مطمئناً وراضياً بالقدر الإلهي. هذه النظرة القرآنية لا تحررنا من الحسرة والقلق فحسب، بل تفتح باباً لحياة أكثر إثماراً ومعنى، تتجسد فيها السعادة الحقيقية والنعيم الأبدي. لذا، كلما انتابك هذا الشعور، بدلاً من الغرق في الحزن والأسى، توقف لحظة واسأل نفسك: هل هذه المقارنة تقربني إلى الله أم تبعدني عنه؟ وإجابة القرآن دائماً هي الدليل في هذا الطريق: البعد عن حب الدنيا والاقتراب من الخالق الأحد. هكذا، بدلاً من الشعور بالتخلف، سنشعر بالتقدم الحقيقي والكمال.
يقال في قديم الزمان، كان هناك جاران: أحدهما تاجر ثري، والآخر درويش قنوع. كان التاجر ينمي تجارته كل يوم، لكن عينه كانت دائماً على تجارة الآخرين. وكلما ازداد ثراؤه، ازداد الحسرة في قلبه، متسائلاً لماذا ليس مثل فلان التاجر. لياليه كان يسرقها القلق من التفكير في الربح والخسارة والتنافس مع الآخرين، ونهاره كان يعيش في قلق مستمر. أما الدرويش، فكان يمتلك خبزاً وتمرًا وثوبًا بالياً، لكن قلبه كان مطمئناً وكان يبدأ كل يوم بالحمد والشكر. كانت الابتسامة على شفتيه، والسكينة تسكن كيانه. ذات يوم، قال التاجر للدرويش: 'يا صديقي، كيف لي أنني بكل هذا الثراء والجهد، أظل في عناء دائم، بينما أنت، بفقرك هذا، تنعم بهذا السلام؟' فأجاب الدرويش بلطف: 'يا رفيقي، أنت تسعى وراء شيء لا نهاية له، وهو التنافس في الدنيا. أما أنا، فأعتبر ما لدي كافياً وقد أوكلت قلبي للخالق. أنت تقيس نفسك بما يملكه الآخرون، وأنا أقيس نفسي بما وهبني الله. فمن كانت عينه على غيره، لن يشبع أبداً؛ أما من كانت عينه على كرم الخالق، فهو غني دائماً.' سمع التاجر هذه الكلمات وتأملها لساعة، وأدرك أن السلام يكمن في القناعة، لا في الكثرة.