الشعور بالتخلف غالبًا ما ينبع من المقارنات الدنيوية، بينما يؤكد القرآن على الحكمة الإلهية في توزيع الأرزاق، والطبيعة الزائلة لهذه الدنيا، وأهمية التركيز على النمو الروحي والاستعداد للآخرة. النجاح الحقيقي يكمن في القناعة والشكر والسعي لرضا الله.
الشعور بأن "الآخرين يتقدمون عليّ" هو تجربة إنسانية شائعة جدًا، خاصة في عصرنا هذا الذي تهيمن عليه وسائل التواصل الاجتماعي حيث تُعرض صور منتقاة للنجاح والتقدم باستمرار. يمكن أن يؤدي هذا الشعور إلى إحساس بالنقص، والحسد، وحتى اليأس. ولكن من منظور القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية، يجب فحص هذا الشعور بعناية وإعادة صياغته. يقدم القرآن الكريم رؤى عميقة يمكن أن تساعدنا في التعامل مع هذه المشاعر، وتذكرنا بالطبيعة الحقيقية للحياة، والنجاح، والحكمة الإلهية. هذا الفهم لا يجلب الطمأنينة للقلب فحسب، بل يوضح لنا أيضًا المسار الصحيح للحياة. أولاً وقبل كل شيء، يعلمنا القرآن أن الله سبحانه وتعالى يوزع الأرزاق والمقامات بين الناس وفقًا لحكمته اللانهائية وتصميمه البديع. هذا التوزيع ليس عشوائيًا، بل هو هادف، كما جاء في سورة الزخرف (الآية 32): "أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ." توضح هذه الآية بوضوح أن الله هو الذي يحدد توزيع الثروة والمكانة والفرص. يُمنح البعض أكثر، ويُمنح البعض أقل، لأسباب متنوعة: لاختبار الشكر، والصبر، والتواضع، والتكافل بين الناس. فالشخص الذي يمتلك أكثر يُختبر في كيفية استخدامه لنعم الله، وهل هو شاكر، ومتواضع، ومعطاء. أما الشخص الذي يمتلك أقل، فيُختبر في صبره، وثقته بالله، وقناعته. لذلك، عندما ترى الآخرين "يتقدمون"، فإنك ببساطة تلاحظ جزءًا من الخطة الإلهية لامتحانهم، وهو امتحان يختلف تمامًا عن امتحانك. "التقدم" الحقيقي لا يتعلق أبدًا بالممتلكات المادية أو المكانة الدنيوية الزائلة. يذكرنا القرآن باستمرار بالطبيعة الفانية والخادعة للحياة الدنيا. وتقدم سورة الحديد (الآية 20) استعارة حية لهذا المفهوم: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۚ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ." تؤكد هذه الآية القوية بشكل لا لبس فيه أن الملاحقات الدنيوية، بما في ذلك التنافس على الثروة والمكانة والأولاد، هي مؤقتة وفانية في نهاية المطاف. إنها مثل نبات يزدهر لفترة وجيزة ثم يذبل ويصبح حطامًا. غالبًا ما ينبع الشعور بالتخلف عن الركب من هذا التنافس نفسه، سباق نحو أشياء لا قيمة لها دائمة. النجاح الحقيقي، وفقًا لهذه الآية، يكمن في السعي للحصول على مغفرة الله ورضوانه في الآخرة. هذه النظرة تساعد الإنسان على التحرر من فخ المقارنات غير المجدية وتوجيه تركيزه نحو القيم الحقيقية والدائمة. علاوة على ذلك، يؤكد القرآن أن الحياة الحقيقية والأبدية هي في الآخرة، وليس في هذه الدنيا الزائلة. يقول الله تعالى في سورة العنكبوت (الآية 64): "وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ." هذا المنظور يحول تركيزنا من المكاسب المؤقتة إلى المكافآت الأبدية. إذا بدا شخص ما "متقدمًا" من الناحية الدنيوية، فإن ذلك لا يعني شيئًا يذكر في المخطط الكبير للآخرة. يجب أن تُوَجَّه طاقاتنا وجهودنا نحو تجميع الأعمال الصالحة التي ستنفعنا يوم القيامة، بدلًا من التحسر على ما يمتلكه الآخرون في هذا المقام المؤقت. إن رحلة كل فرد واختباره فريدان، والمقارنة تشتتنا عن هدفنا ومسؤوليتنا أمام الله. كل خطوة نخطوها، وكل جهد نبذله، وكل نية في قلوبنا، يجب أن تكون مصحوبة بنية التقرب إلى الله ورضوانه لتحقيق الثمرة الحقيقية والأبدية. بدلًا من مقارنة أنفسنا بالآخرين في الجوانب الدنيوية، يشجعنا الإسلام على تنمية القناعة والشكر. عندما نركز على النعم التي لا تُحصى التي وهبها الله لنا، مهما بدت صغيرة، فإننا نشعر بالرضا بشكل طبيعي ونكون أقل عرضة للحسد. علمنا النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أن ننظر إلى من هم أقل حظًا في الأمور الدنيوية لتقدير نعمنا، وأن ننظر إلى من هم أكثر صلاحًا في الأمور الروحية لإلهامنا لفعل الأفضل. تساعدنا هذه النصيحة الحكيمة على إعادة توجيه نظرتنا المقارنة من الممتلكات المادية إلى النمو الروحي. باحتضان الشكر، نفتح لأنفسنا أبوابًا للمزيد من النعم ونجد السلام في قضاء الله. هذا السلام القلبي هو نتيجة التوكل على الله والثقة في حكمته، وأن ما قدره لنا هو الأفضل. إن الشعور "بالتخلف" يمكن أن يكون أيضًا وسوسة من الشيطان، مصممة لخلق السخط والجحود وتحويلنا عن مسارنا الروحي. الترياق هو تقوية صلتنا بالله من خلال الصلاة، والذكر، والتفكر في القرآن. عندما نغمر أنفسنا في ذكر الله، تجد قلوبنا الطمأنينة، كما ورد في سورة الرعد (الآية 28): "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ." هذا التحصين الروحي يساعدنا على مقاومة الرغبة في المقارنة والتركيز على رحلتنا الشخصية لإرضاء خالقنا. هذا المسار هو مسار يسلكه كل فرد بمفرده، ويعتمد النجاح فيه على مدى إخلاص الفرد وجهده. في الختام، يعلمنا القرآن أن تنافسنا الحقيقي يجب أن يكون مع أنفسنا – السعي لأن نكون مسلمين أفضل اليوم مما كنا عليه بالأمس، لتحسين أخلاقنا، وعبادتنا، وأعمالنا الصالحة. إنه تنافس في الصلاح، وليس في التراكم المادي. إن الحكمة الإلهية وراء اختلاف الأرزاق وظروف الحياة هي اختبار للجميع. بفهم هذا، يمكننا أن نُزيل عبء المقارنة، ونحتضن القناعة، ونركز طاقاتنا على ما يهم حقًا: الاستعداد للحياة الأبدية من خلال السعي لرضوان الله وتحقيق غايتنا الفردية على الأرض. يجلب هذا المنظور سلامًا هائلاً ويتيح لنا تقدير المسار الفريد الذي وضعه الله لكل واحد منا. تذكر، الله يعلم ما هو الأفضل لنا، وخططه دائمًا كاملة ولا تشوبها شائبة. ثق بحكمته، وكن شاكرًا لنعمك، واجتهد في سبيله. هذا هو "التقدم" الحقيقي.
في يوم من الأيام، كان ملكٌ ذو جيوش عظيمة وثروة وفيرة قلقًا باستمرار بسبب مخاوف حول أمن مملكته. رأى درويشًا ينام بسلام تحت شجرة، لا يملك سوى عباءة مرقعة. سأل الملك: 'يا درويش، كيف تنام بهذا السلام، بينما أنا، بكل مملكتي، لا أجد لحظة راحة؟' أجاب الدرويش: 'يا صاحب الجلالة، مملكتي في داخلي، وهي آمنة. مملكتك خارجك، وتحتاج إلى حراسة مستمرة. ثروتي هي القناعة، التي لا يستطيع لص أن يسرقها ولا عدو أن يدمرها. ثروتك خارجية، وبالتالي قلقك خارجي.' تأمل الملك في هذه الكلمات، ووجد بعض السلام في حكمة الدرويش، وتوقف عن المقارنات غير المجدية.