الشعور بالحزن رغم النجاح المادي ينبع من عدم تحقيق السلام الروحي العميق. يعلمنا القرآن أن السعادة الحقيقية وراحة القلب لا توجد إلا في ذكر الله وفهم الطبيعة الزائلة للدنيا، وليس في الإنجازات المادية.
إن الشعور بالحزن أو الضيق، حتى مع تحقيق نجاحات باهرة في الحياة الدنيا، هو تجربة يواجهها الكثير من الناس. هذه الظاهرة، التي قد تبدو متناقضة للوهلة الأولى، لها جذور عميقة في فهم القرآن الكريم لطبيعة الوجود الإنساني، وهدف الحياة، وحقيقة السعادة. يوضح القرآن الكريم ببصيرته الفريدة أن النجاحات المادية والدنيوية، مهما بدت قيّمة، لا تستطيع وحدها أن تملأ الفراغات الروحية والاحتياجات العميقة للقلب البشري، ولا يمكنها أن تجلب السعادة الحقيقية. قد يكون هذا الشعور بالحزن إشارة إلى أن قلب الإنسان وروحه يتوقان إلى شيء يتجاوز الإنجازات المادية؛ شيء لا يتحقق إلا بالاتصال بمصدر الوجود كله، وهو الله سبحانه وتعالى. أحد أهم الأسباب التي يطرحها القرآن لهذا النوع من الضيق هو الطبيعة الفانية والعابرة للدنيا وملحقاتها. في سورة الحديد، الآية 20، يصف الله تعالى الحياة الدنيا بأجمل تعبير: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ". توضح هذه الآية بوضوح أن كل ما نعتبره نجاحًا في الدنيا – من ثروة وأولاد إلى شهرة ومكانة – هو كمثل زرع ينمو ويزهو، ثم يصفر ويتحطم في النهاية. إن الاعتماد على مثل هذه الإنجازات الزائلة لإيجاد راحة أبدية، هو كبناء بيت على رمال متحركة. يؤدي التعلق المفرط بهذه الأمور، عندما يدرك الإنسان عدم استقرارها، إلى الشعور بالفراغ والضيق. ويؤكد القرآن الكريم أيضًا على أن قلب الإنسان، لكي ينعم بالهدوء الحقيقي، يحتاج إلى ذكر الله. ففي سورة الرعد، الآية 28، يقول تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ". تكشف هذه الآية حقيقة أساسية: إن السلام الداخلي والسعادة الحقيقية لا توجد في جمع الثروات، ولا في اكتساب المكانة، ولا في إعجاب الآخرين، بل في علاقة عميقة وصادقة مع خالق الوجود. عندما يبتعد الإنسان عن هذا المصدر للسكينة، حتى لو كان في قمة النجاح الخارجي، فإنه يشعر بنقص داخلي وحزن. هذا الضيق هو في الواقع جرس إنذار من فطرة الإنسان يدعوه للعودة إلى الله وإيجاد السلام الحقيقي في عبادته وذكره. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤدي النجاحات الدنيوية إلى الغفلة والكبر. عندما يصل الإنسان إلى قمة النجاح وكل شيء يسير وفقًا لرغباته، قد ينسى أن كل هذه النعم هي من عند الله ويعتبر نفسه المالك الوحيد لهذه الإنجازات. هذا الكبر والغفلة يخلقان حجابًا بينه وبين الله، ويمنعان شعوره بالامتنان والتواضع، وهما بحد ذاتهما مصدر للسلام والرضا الداخلي. ينتقد القرآن في سورة الفجر، الآيات 15 و 16، هذا المنظور الخاطئ: "فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)". تُظهر هذه الآيات أن الإنسان غالبًا ما يرى النجاح علامة على الكرامة والفشل علامة على الإهانة، بينما كلاهما اختبار إلهي، وموقفنا منهما هو الذي يحدد شعورنا الداخلي. الحل القرآني للتغلب على هذا الضيق، هو أولاً وقبل كل شيء، تغيير النظرة إلى مفهوم النجاح والسعادة. تكمن السعادة الحقيقية في أن يدرك الإنسان هدفه الأساسي من الحياة: عبادة الله والاستعداد للحياة الآخرة. تساعده هذه البصيرة على رؤية النجاحات الدنيوية كوسيلة لتحقيق أهداف أسمى، وليس كهدف نهائي. وبالتالي، على الرغم من سعيه في الدنيا، فإن قلبه لا يتعلق بها. كما أن الاهتمام بالعبادات مثل الصلاة، تلاوة القرآن، الذكر والدعاء، وكذلك خدمة خلق الله والأعمال الصالحة، كلها طرق لتقوية العلاقة بالله وملء الفراغات الروحية. إن العطاء ومساعدة المحتاجين، الزكاة والصدقة، لا تمنح الإنسان شعورًا بالرضا الداخلي فحسب، بل تحرره أيضًا من أسر مال الدنيا وتمنحه السلام. ممارسة الشكر على النعم، حتى أصغرها، يمكن أن تغير نظرة الإنسان وتبعده عن التركيز على النقص وعدم الاستقرار. في الختام، يعلمنا القرآن أن الحياة الدنيا هي فرصة للنمو والاختبار. قد يكون الشعور بالحزن بعد النجاح علامة على أن الله يريد أن يرتقي بنا إلى مستوى أعلى من الوعي والروحانية. هذا الشعور فرصة للتأمل الداخلي وإعادة تقييم الأولويات. بقبول حقيقة أن السلام والرضا الدائمين لا يُعثر عليهما إلا في القرب من الله، وليس في الإنجازات الدنيوية، يمكننا أن نحول الضيق إلى جسر يؤدي إلى السعادة الحقيقية. هذا المسار يضيء القلب ويمنح الحياة معنى، ويحرر الإنسان من سجن التوقعات المادية.
يُروى أن ملكًا كان غنيًا ومجيدًا جدًا، لكنه كان يحمل حزنًا خفيًا في قلبه ولم يكن يفرح بأي شيء. ذات يوم، بينما كان يمر بالسوق، رأى درويشًا جالسًا تحت شجرة بقطعة خبز جافة وجرة ماء، وهو سعيد ويضحك بملء قلبه. سأله الملك بدهشة: "يا درويش، ما الذي يجعلك سعيدًا هكذا رغم فقرك، بينما أنا، بكل ثرائي وقوتي، دائمًا حزين؟" ابتسم الدرويش وقال: "يا أيها الملك، لقد أوكلت قلبك إلى كنوز تخشى فقدانها في أي لحظة، بينما أنا أوكلت قلبي إلى كنز لا يسرقه لص ولا يحرقه نار. أنت تبحث عن السلام في زيادة الدنيا، وأنا وجدت السلام في التحرر منها. هدوء القلب ليس في الممتلكات، بل في عدم التعلق بشيء سوى الحبيب الحقيقي." تأثر الملك بكلام الدرويش تأثرًا عميقًا، ومنذ ذلك الحين سعى ليشغل قلبه بذكر الله بدلاً من أمور الدنيا، ونتيجة لذلك وجد السلام الحقيقي.