لماذا لا أشعر بالسلام حتى عندما لا أرتكب الذنوب؟

السكينة تتجاوز مجرد تجنب الذنوب؛ فهي تتطلب ذكر الله الدائم، والتوكل الكامل عليه، والصبر، وتطهير القلب من التعلقات الدنيوية والرذائل الأخلاقية الخفية. هذه السكينة هي هبة إلهية تُكتسب من خلال جودة العلاقة مع الله وتزكية النفس.

إجابة القرآن

لماذا لا أشعر بالسلام حتى عندما لا أرتكب الذنوب؟

السؤال الذي طرحته هو أحد أعمق التساؤلات البشرية وأكثرها تكرارًا، وهو متجذر في فطرة الإنسان وبحثه عن السعادة والسكينة. يعتقد الكثير منا أنه إذا امتنعنا عن ارتكاب الكبائر، فإن السكينة والسعادة ستأتي إلينا تلقائيًا. في حين أن هذا التصور، وإن كان يحمل جزءًا من الحقيقة، إلا أنه ليس الحقيقة كاملة. يقدم القرآن الكريم رؤية أكثر شمولاً وعمقًا لمفهوم السكينة تتجاوز مجرد تجنب الذنوب الظاهرية. السكينة الحقيقية، التي يشير إليها القرآن بمصطلح 'السكينة'، هي حالة من الطمأنينة القلبية والرضا الداخلي والتحرر من القلق، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بجودة علاقة الإنسان بربه، وفهمه للوجود، وحالة قلبه وروحه. أول مصدر للسكينة، وربما الأهم في منظور القرآن، هو 'ذكر الله'. يقول الله تعالى في سورة الرعد، الآية 28: 'الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ' (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب). هذه الآية تعلن صراحة أن السكينة القلبية لا تتحقق فقط بالابتعاد عن الذنوب، بل بحضور ذكر الله الدائم في القلب. ذكر الله لا يقتصر على التسبيح أو الأذكار اللسانية فقط؛ بل يشمل التفكر في عظمة الله وقدرته، وحضور القلب في الصلاة، وتلاوة آيات القرآن وتدبرها، والشكر على النعم، وملاحظة الألطاف الإلهية في جميع جوانب الحياة. عندما يعلم الإنسان أن الله حاضر ومراقب في جميع لحظات حياته، ويؤمن بقدرته وحكمته، فإن قلبه سيبقى مطمئنًا حتى في مواجهة المشاكل والصعوبات. إن عدم ذكر الله، أو الغفلة عنه، حتى لو لم تكن مصحوبة بذنوب ظاهرة، يمكن أن تحرم القلب من النور والسكينة وتدفعه إلى القلق والاضطراب. العامل الحيوي الثاني الذي يقدمه القرآن لتحقيق السكينة هو 'التوكل' والثقة الكاملة بالله. الحياة الدنيا كلها ابتلاءات واختبارات. قد يقلق الناس بشأن المستقبل، ويخافون على رزقهم، أو يحزنون على ما فاتهم. هذه المخاوف، حتى لو لم يرتكب الفرد أي ذنب، يمكن أن تسلبه سكينته. يؤكد القرآن في آيات عديدة، ومنها سورة الطلاق، الآية 3: 'وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ' (ومن يتوكل على الله فهو حسبه). التوكل يعني أن يبذل الإنسان قصارى جهده في الاتجاه الصحيح، ثم يوكل النتيجة إلى الله، ويثق في حكمته وتدبيره. عندما يعلم الإنسان أن مقاليد الأمور بيد رب رحيم وحكيم يعلم ما هو خير لعباده، فإن الهموم الدنيوية لن تستطيع أن تغلبه. إن عدم التوكل، حتى مع الأعمال الصالحة، يمكن أن يؤدي إلى انشغالات ذهنية ونقص في السكينة. علاوة على ذلك، يشدد القرآن على أهمية 'الصبر' و'الصلاة' كأداتين قويتين لتحقيق السكينة والتغلب على التحديات. في سورة البقرة، الآية 153، نقرأ: 'يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ' (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين). الصبر يعني تحمل المشقات، ومقاومة الصعوبات، وعدم التسرع في تلبية رغبات النفس. عندما يتحلى الإنسان بالصبر، يبتعد عنه اليأس والعجلة ويصل إلى سكينة داخلية. أما الصلاة، فهي ليست مجرد فريضة دينية، بل هي ذروة اتصال العبد بربه ومعراج المؤمن. في الصلاة، يتحرر الإنسان من هموم الدنيا ويتصل بالمصدر الأبدي للسكينة. فإذا لم يرتكب الإنسان ذنبًا، ولكنه لم يستفد كفاية من هذين الجناحين المهمين (الصبر والصلاة بحضور القلب)، فقد يفقد سكينته في مواجهة عواصف الحياة. سبب آخر لعدم السكينة يمكن أن يكون 'التعلق المفرط بالحياة الدنيا'. يصف القرآن الحياة الدنيا بأنها فانية وعابرة، ويرى أن التعلق الشديد بها هو السبب الرئيسي للقلق والحزن. في سورة الحديد، الآية 23، جاء: 'لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ' (لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ). عندما يتعلق قلب الإنسان بالمال أو المنصب أو الجمال أو أي شيء دنيوي آخر بشكل مفرط، فإن أدنى تغيير في هذه التعلقات يؤدي إلى القلق والاضطراب. وحتى لو لم تكن هذه التعلقات مصحوبة بذنب، فإن ذات التعلق يعكر صفو السكينة. تتحقق السكينة عندما يتحرر قلب الإنسان من هذه التعلقات ويعتمد على الله وحده. وأخيرًا، تتوقف السكينة الحقيقية على 'تطهير القلب' من الرذائل الأخلاقية الخفية. في بعض الأحيان، لا يرتكب الفرد ذنوبًا ظاهرة، لكن قلبه أسير صفات مثل الحسد، الحقد، الكبر، البخل، الحرص، أو العجب. هذه الصفات الداخلية، مثل الأمراض المزمنة، تلتهم سكينة الإنسان ببطء. يؤكد القرآن على أهمية 'القلب السليم' (القلب الطاهر السليم). إصلاح الباطن وتزكية النفس عملية مستمرة تتطلب معرفة الذات، والمراقبة، ومحاسبة النفس، والسعي لاكتساب الفضائل الأخلاقية. حتى لو كان الفرد يبدو طاهرًا ظاهريًا، ولكنه يعاني باطنيًا من هذه الأمراض الروحية، فمن غير المرجح أن يتذوق طعم السكينة الحقيقية. لذا، السكينة هي هبة إلهية تُمنح للقلوب التي ليست فقط نقية من الذنوب، بل مطمئنة بذكر الله، هادئة بالتوكل، ومجهزة بالصبر والصلاة، ومتحررة من التعلقات الدنيوية، ومطهرة من أمراض القلب الخفية. هذا المسار مسار مستمر يتطلب جهدًا وتزكية يومية ليحقق الإنسان تلك السكينة المطلوبة والمستقرة.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

ورد في گلستان سعدي أن ملكاً سأل وزراءه: «لماذا مع كل مجدي وعظمتي وثروتي، ما زلت أفتقر إلى السلام أحيانًا وقلبي لا يطمئن؟ بينما أرى فقيرًا يجلس على الأرض، وعلى الرغم من فقره، فهو مبتسم ومرتاح البال.» فقال أحد الحكماء الحاضرين: «يا أيها الملك! السلام ليس في خزائن الذهب المليئة، ولا في عرش الملك. ذلك الفقير قد أفرغ قلبه من أماني الدنيا، وهو راضٍ برزقه الحلال وقضاء الله. إنه يعلم أن كل ما هو موجود، فهو من عند الله، وكل ما ليس موجودًا، فهو أيضًا من حكمته. أما أنت، فلا تزال متعلقًا بأشياء قد تفقدها، وتقلق بشأن أشياء لم تأتِ بعد. السلام الحقيقي يكمن في تسليم القلب لرضا الرب، والتحرر من قيود التعلق بالدنيا، وليس فقط في الامتناع عن الذنب.» فتلقى الملك العبرة من هذا القول وسعى لتحرير قلبه من التعلقات الدنيوية، ليتذوق بذلك جوهر السلام الحقيقي.

الأسئلة ذات الصلة