الغرور بعد مساعدة الآخرين يدل على الغفلة عن إخلاص النية والمصدر الحقيقي للنعم. يحذر القرآن من أن المن والرياء يبطلان الصدقات، ويؤكد على ضرورة التواضع والإخلاص، فكل خير هو من فضل الله.
إن الشعور بالغرور والتكبر بعد أداء عمل صالح، خاصة مساعدة الآخرين، هو أحد التحديات العميقة والدقيقة التي يواجهها كثير من الناس. هذا السؤال لا يدل فقط على صدق السائل الداخلي، بل يشير أيضاً إلى واحدة من أهم العوائق أمام النمو الروحي وإخلاص النية من منظور القرآن الكريم. فالقرآن، ببصيرته العميقة، يصف هذه الظاهرة بأنها آفة للأعمال الصالحة ويقدم حلولاً لمكافحتها. هذا الشعور بالغرور هو، في الحقيقة، علامة على تسلل النفس الأمارة بالسوء ووساوس الشيطان التي تسعى لإبطال الأجر الأخروي للأعمال الصالحة وتحويل الإنسان عن مسار العبودية الخالصة. من منظور القرآن الكريم، كل عمل خير يقوم به الإنسان هو، في بدايته ونهايته، فضل ومنحة من الله تعالى. فنحن بحد ذاتنا لا نمتلك القدرة على فعل الخير ولا الأموال التي يمكننا التصدق بها دون إذنه وإرادته. في الحقيقة، لقد جعلنا الله وسيلة لإيصال الخير لعباده، وهذا بحد ذاته يستدعي الشكر والامتنان الكثير، لا الغرور والعُجب بالنفس. عندما يصاب الإنسان بالغرور في مساعدة الآخرين، فإنه في الواقع يتجاهل هذه الحقيقة الأساسية بأن كل ما يملك وكل توفيق يحققه هو من عند ربه. هذا الفهم الخاطئ يؤدي به إلى نسبة العمل إلى نفسه والابتعاد عن الهدف الأساسي وهو كسب رضا الله. لقد أكد القرآن الكريم مراراً وتكراراً أن كل القوى والقدرات هي من عند الله، والإنسان ما هو إلا مجرد وسيلة. ففي سورة البقرة، الآية 264، يشير الله صراحة إلى هذه النقطة ويقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ"، أي: "يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صَفْوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صَلْداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين". هذه الآية توضح بجلاء أن المنّ (وهو نوع من الغرور العملي) والرياء، يبطلان الأعمال الصالحة ويجعلانها بلا قيمة. السبب الجذري للغرور يكمن في العُجب والتكبر، وهما من أمراض القلب. لقد حذر القرآن الكريم الناس مراراً وتكراراً من التكبر؛ لأن التكبر كان صفة إبليس الذي بسببه طرد من رحمة الله. في سورة لقمان، الآية 18، نقرأ: "وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"، أي: "ولا تُعرض بوجهك عن الناس تكبرًا عليهم، ولا تمش في الأرض متكبرًا متفاخرًا؛ إن الله لا يحب كل مختال في نفسه فخور على غيره". هذه الآية تشير مباشرة إلى النهي عن العُجب والفخر، اللذين يشكلان في جوهرهما جذور الغرور بعد مساعدة الآخرين. فعندما يقدم أحدهم المساعدة ثم يسيطر عليه شعور الغرور، فهذا يعني أنه نسي أن كل شيء من الله، وأنه كان مجرد وسيلة. وفي الواقع، هذا الغرور هو نوع من تجاهل قوة وإرادة الله ووضع الذات في المكانة الأساسية. للتغلب على هذا الشعور، من الضروري أن نجعل نيتنا خالصة دائمًا، وأن نقوم بأعمالنا فقط من أجل رضا الله. هذا الإخلاص في النية هو جوهر كل العبادات والأعمال الصالحة. عندما ننوي مساعدة أحدهم، يجب أن نتذكر أننا مجرد وسيلة لإيصال الرحمة الإلهية، وأن هذا التوفيق لتقديم الخدمة هو نفسه نعمة عظيمة من الله. لذا، بدلاً من الشعور بالغرور، يجب أن نشعر بالامتنان لله تعالى الذي جعلنا أهلاً لهذه الخدمة. كذلك، يجب أن نسأل أنفسنا: لو قام بهذا العمل شخص آخر غيرنا، هل كانت هذه المساعدة ستقدم؟ بالتأكيد نعم، لأن الله هو الرازق ومقضي الحاجات، وإذا لم نكن نحن الوسيلة، فسيكون غيرنا. الطريقة الأخرى هي إخفاء أعمال الخير قدر الإمكان. فعلى الرغم من أن الإنفاق العلني جائز ومستحب في بعض الحالات (لتشجيع الآخرين)، إلا أن الإنفاق السري يضمن إخلاصًا أكبر ويقلل من فرص ظهور الغرور والرياء إلى أدنى حد. وتشير الآية 271 من سورة البقرة إلى هذا الموضوع: "إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ"، أي: "إن تظهروا الصدقات فنِعِمَ ما تفعلون؛ وإن تُخفُوها وتُعطوها الفقراء فهو خير لكم، ويكفر الله عنكم بذلك بعض ذنوبكم. والله عليم بكل ما تعملون." هذه الآية تؤكد أن إخفاء الصدقات أفضل، لأنه ينقي النية ويبعدها عن آفات الغرور والرياء. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن نتذكر دائمًا أن كل إنسان، بغض النظر عن مكانته، يمتلك كرامة وعزة نفس. يجب ألا تكون مساعدتنا بطريقة تخدش كرامته أو تجعله يشعر بالدونية أو العجز. هذا التفكير أيضًا له جذور في الغرور. يجب أن نساعد الآخرين بأقصى درجات الاحترام والتواضع، وأن نرى أنفسنا لسنا أفضل منهم، بل بجانبهم. في النهاية، يجب أن نتأمل دائمًا في عظمة الله وصغرنا أمام عظمته. هذا التفكير هو أفضل ترياق للغرور. في كل مساعدة نقدمها، بدلاً من التركيز على "أنا" الذي ساعدت، نركز على "هم" الذين يحتاجون و"الله" الذي وفق. هذا التغيير في المنظور ينقي القلب من دنس الغرور ويجعل الأعمال خالصة ومثمرة. التغلب على الغرور في مساعدة الآخرين، هو علامة على النمو الروحي الحقيقي وخطوة مهمة في مسار العبودية الخالصة، والتي ستجلب ثمارًا دنيوية وأخروية وفيرة.
يُروى أنه في العصور القديمة، كان هناك رجل غني وذو نفوذ، وكانت عادته أن يعلن عن صدقاته للفقراء بصوت عالٍ وفي حضور الجمع، لكي ينتشر اسمه الطيب بين الناس. كان يستمتع بأن يُدعى 'جوادًا' و'معطاءً'، وهذه الممارسة أورثت فيه كبرًا خفيًا. ذات يوم، رآه حكيم فطن بعد أن قدم الكثير من المال، وهو ينظر إلى الحشد بنظرة مليئة بالرضا عن الذات. اقترب الحكيم منه وبابتسامة دافئة قال: 'يا صاحب الجود، حسنٌ أن لديك يدًا معطاءة، ولكن اعلم أن ما تعطيه يدك اليمنى ولا تعلم به يسراك، فقيمة ذلك تزداد مائة ضعف. فإن كل ما يُفعل ليُرى من قبل الخلق، لا ينال نصيبًا من الحضرة الإلهية.' في البداية، شعر الرجل بالاستياء، لكن بعد قليل تأمل في كلام الحكيم وأدرك أن النية الصافية أثمن بكثير من أي شهرة أو مدح. ومنذ ذلك اليوم فصاعدًا، أصبحت صدقاته أكثر سرية وإخلاصًا، ووجد السلام الحقيقي في قلبه، لا في ألسنة الناس.