غالبًا ما ينشأ شعور انعدام المعنى في الحياة من الغفلة عن الهدف الأساسي للخلق، وهو عبادة الله، والتعلق المفرط بالدنيا. يمكن التغلب على هذه الحالة بالعودة إلى ذكر الله، وأداء الأعمال الصالحة، والتركيز على الآخرة.
“لماذا أشعر أحيانًا بانعدام المعنى في الحياة؟” هذا سؤال عميق يواجهه الكثيرون في مراحل مختلفة من حياتهم. إن شعور الفراغ والضياع وغياب الهدف يمكن أن يكون مؤرقًا للغاية. من منظور القرآن الكريم، حياة الإنسان ليست بلا معنى، بل هي غائية وهادفة ومليئة بالأهداف السامية. يؤكد القرآن صراحة أن كل ما في الوجود قد خُلق بحكمة إلهية، والإنسان ليس استثناءً من هذه القاعدة. غالبًا ما ينشأ شعور انعدام المعنى عندما يغفل الفرد عن هذه الحقيقة ويفقد اتصاله بالخالق والهدف الأساسي من خلقه، أو يصاب بغفلة عن الأبعاد الأعمق للوجود. إن هذا التيه هو في الواقع علامة، علامة على أن روح الإنسان تحتاج إلى شيء أسمى من الماديات الدنيوية. يوضح القرآن الكريم الهدف الأساسي من خلق الجن والإنس في آية واضحة وصريحة: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات: 56). تخبرنا هذه الآية الكريمة أن الغاية من وجودنا ليست سوى عبادة الله وطاعته. لكن العبادة في المفهوم القرآني لا تقتصر على أداء الشعائر والفرائض فحسب؛ بل تشمل حياة تكون جميع أبعادها – من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية إلى الجوانب الفردية والروحية – موجهة نحو رضا الله تعالى ومبنية على تعاليمه. عندما ينحرف الإنسان عن هذا الهدف السامي من الخلق، أو ينساه، فمن الطبيعي أن يصاب بالحيرة والفراغ. الحياة بلا بوصلة إلهية تشبه سفينة بلا شراع تتيه في المحيط، تفتقر إلى التوجيه ومن الطبيعي أن تشعر بالضياع والتيه. إن روح الإنسان تحتاج إلى غاية أسمى من مجرد البقاء المادي، وعندما لا تجد هذه الغاية، تصاب بالضيق والتيهان. هذا الفراغ هو في جوهره صرخة الروح لتعود إلى مصدرها الأصلي. أحد الأسباب الرئيسية لشعور انعدام المعنى من وجهة نظر القرآن هو الانجذاب المفرط للحياة الدنيا ونسيان الآخرة. يذكر القرآن مرارًا وتكرارًا أن الحياة الدنيا فانية وزائلة، ويجب ألا تلهي الإنسان عن هدفه الأساسي. في سورة الأعلى الآيتين 16 و 17 يقول تعالى: “بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ” (بل تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى). عندما تصبح كل جهود الإنسان موجهة نحو جمع المال، أو اكتساب الشهرة، أو تحقيق الملذات الدنيوية الزائلة، وينسى أن هذه كلها مجرد وسائل للوصول إلى الكمال والرضا الإلهي، فإنه سرعان ما يجد نفسه غارقًا في شعور بالفراغ والعبثية. ينبع هذا الشعور من الطبيعة الفانية للدنيا؛ فمهما بلغ الإنسان من تحقيق رغباته الدنيوية، يبقى غير قانع، وهذا الشعور بعدم القناعة يؤدي إلى اليأس وانعدام المعنى. القلب البشري خُلق بحيث لا يجد الطمأنينة إلا بالاتصال باللانهائي؛ وكل ما هو دون اللانهائي لا يستطيع أن يرويه أو يوفر له سلاماً مستداماً. هذا هو بالضبط ما يجعل الأفراد، على الرغم من إنجازاتهم المادية الوفيرة، يستمرون في الشعور بالفراغ وعدم الرضا. الحل القرآني للتخلص من هذا الشعور، في المقام الأول، يكمن في العودة إلى “ذكر الله” أو ذكر الله تعالى. يؤكد القرآن الكريم صراحة أن الطمأنينة الحقيقية لا تتحقق إلا بذكر الله: “الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” (الرعد: 28) (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله؛ ألا بذكر الله تطمئن القلوب). ذكر الله ليس مجرد ترديد للكلمات؛ بل يشمل التذكير الدائم بحضوره، وقوته، ورحمته، وهدفية الخلق. عندما يملأ الإنسان قلبه بذكر الله، لا يتبقى مكان للفراغ وانعدام المعنى. هذا الذكر يمنح الإنسان بصيرة أعمق للأحداث الحياتية ويهديه إلى الطريق الصحيح. لا يقتصر الذكر على الصلاة وتلاوة القرآن فحسب، بل يشمل أيضاً الوعي وحضور القلب في كل لحظة من الحياة تجاه النعم والابتلاءات الإلهية. وهذا الحضور القلبي يملأ الحياة بالشكر والمعنى ويمنحها عمقاً لا يضاهى. علاوة على الذكر، يؤكد القرآن على أهمية الصبر والصلاة كأداتين قويتين للتغلب على المشكلات وإيجاد المعنى. في سورة البقرة الآية 153 يقول: “يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة؛ إن الله مع الصابرين). يساعد الصبر الإنسان على الثبات في مواجهة صعوبات الحياة ومكارهها وتجنب اليأس والقنوط. هذه الرؤية بأن كل صعوبة يمكن أن تؤدي إلى النمو والتقرب إلى الله تضفي معنى على الابتلاءات. أما الصلاة، فهي اتصال مباشر وبلا واسطة مع الخالق، تغذي روح الإنسان، توقظه من الغفلة، وتحافظ على شعوره بالهدف حياً. عندما يقف الإنسان بتواضع أمام ربه، يدرك عظمة الوجود ومكانته فيه، وهذا الإدراك يمنحه معنى ووجهة. إن هذين الركنين، الصبر والصلاة، لا يمنعان الانهيار الروحي فحسب، بل يوفران أيضاً أسسًا راسخة لبناء حياة هادفة وذات معنى. بالإضافة إلى ذلك، فإن مساعدة الآخرين والقيام بالأعمال الصالحة يشكل جزءًا مهمًا من إضفاء المعنى على الحياة من منظور قرآني. الإسلام ليس دينًا فرديًا؛ بل يؤكد بقوة على أهمية المجتمع وحقوق الآخرين. مساعدة المحتاجين، إقامة العدل، الصدق في المعاملات، وكل عمل خير يتم لوجه الله ولصالح الخلق، لا يحمل مكافآت أخروية فحسب، بل يمنح أيضًا معنى وبهجة لحياة الإنسان في هذه الدنيا. يشير القرآن في آيات عديدة إلى أهمية العمل الصالح ويقرنه بالإيمان. فالشخص الذي يهتم بنفسه فقط ويهمل المجتمع والآخرين، سيعاني عاجلاً أم آجلاً من شعور بالعزلة وانعدام المعنى. في المقابل، من يمد يد العون للآخرين ويزيل كربهم بأعماله الطيبة، يجد معنى وجوده في خدمة الخالق والمخلوق. إن هذا الشعور بالارتباط والتأثير الإيجابي يجلب أعمق مستويات الرضا الداخلي والامتلاء، والشعور بالنفع وأن تكون جزءًا من كل أكبر هو بحد ذاته رادع كبير لانعدام المعنى. أخيرًا، يساعد إدراك حقيقة أن الحياة الدنيا ميدان اختبار وامتحان، الإنسان على التخلص من شعور انعدام المعنى. يقول القرآن في سورة الملك الآية 2: “الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا” (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً). عندما يدرك الفرد أن كل لحظة في حياته هي فرصة لكسب الأجر في هذا الاختبار الإلهي، فلن تبدو أي لحظة بلا معنى أو بلا هدف. حتى الصعوبات والتحديات تتحول إلى فرص للنمو والصبر والتقرب إلى الله. يمنح هذا المنظور الإنسان رؤية أبدية وثابتة، تتلاشى أمامها مشاكل الدنيا العابرة، ويحل محلها الدافع والأمل. وهكذا، فإن انعدام المعنى غالبًا ما ينجم عن الانفصال عن هذه البوصلة الإلهية ونسيان الهدف السامي والأبدي للحياة. بالعودة إلى الله، وتقوية الاتصال الروحي، والتركيز على الأعمال الصالحة، يمكن تحويل هذا الشعور إلى سلام ورضا عميقين. هذا المسار لا يعيد المعنى إلى حياة الإنسان فحسب، بل يعده أيضًا لحياة أكثر دوامًا وجمالاً في الآخرة، ويمنح وجوده هدفاً واتجاهاً.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك تاجر شديد النجاح في الدنيا، وقد جمع ثروة طائلة. كان يحصل على كل ما يشتهيه، من الجاه والمكانة إلى الثراء بلا حدود، ومع كل هذا، لم يكن ينام نوماً هادئاً في الليل، وكان قلبه ضيقاً في النهار. كل يوم كان يزداد شوقه لشيء مفقود لا يعرف ما هو. سئم الحفلات الباهظة ولم يجد متعة في ثروته الوافرة. ذات يوم، وفي طريق سفره، وصل إلى زاهد منعزل كان يعيش في كوخ صغير، مكتفياً بقطعة خبز جاف وكأس ماء، يتمتع بسكينة وكأنما يمتلك ملكوت العالم بأسره. سأله التاجر: «يا رجل الله، أنا أمتلك كل شيء، ولكني لا أمتلك شيئاً. ماذا تملك أنت الذي يجعلك سعيداً وقلبك مطمئناً هكذا؟» ابتسم الزاهد بلطف وقال: «ما تفتقده أنت، وأمتلكه أنا، هو قلب قطع تعلقه برغبات الدنيا ووجد طمأنينته في ذكر الله. أنت كنت تسعى للزيادة، وأنا كنت أسعى لتقليل التعلقات. كلما وصلت إلى شيء، كنت تشتاق لشيء آخر، وبقي قلبك قلقاً؛ لأنك علقت قلبك بالفانيات. أما أنا، فقد علقت قلبي بالباقي، ولم أطلب سواه، فأصبحت مستغنياً عن كل شيء آخر ووجدت السكينة. راحة الدنيا تكمن في ترك التعلق، لا في جمعه.» سمع التاجر هذا الكلام، وحدث في قلبه انقلاب. ومنذ ذلك الحين، أعرض عن الدنيا وعلق قلبه بالدار الباقية، وسعى في عبادة الله تعالى حتى تخلص من ذلك الشتات وانعدام المعنى، وتذوق الطعم الحقيقي للسلام والاطمئنان.