الشعور بالضغينة رغم الإيمان، نابع من الصراع الدائم مع النفس ووساوس الشيطان. القرآن يرشدنا للتغلب عليها بكظم الغيظ والعفو ومقابلة السيئة بالحسنة، مما يؤدي إلى سلام القلب.
أختي أو أخي الكرام، سؤالكم عميق جدًا ويتناول همًا يواجهه الكثير من الناس، حتى أولئك الذين يتمتعون بإيمان راسخ. إن فهم سبب شعور المرء أحيانًا بالضغينة أو السخط، على الرغم من امتلاكه قلبًا مؤمنًا وميلًا نحو الله، يتطلب تأملًا في الطبقات الوجودية للإنسان وفي التعاليم الغنية للقرآن الكريم. يجب أن ندرك أن الإيمان ليس حالة ثابتة ومستقرة، بل هو مسار دائم للنمو والتطور؛ مسار يكافح فيه الإنسان باستمرار ضد النفس الأمارة بالسوء ووساوس الشيطان. يذكر القرآن الكريم صراحة أن الإنسان، بكل كمالاته وقدراته على الوصول إلى القرب الإلهي، لديه أيضًا نقاط ضعف وعيوب. النفس البشرية بطبيعتها لديها ميول يمكن أن تدفعها نحو الخطيئة والرذائل الأخلاقية، ما لم تُروّض بالتوجيه الإلهي والإرشاد القرآني. الضغينة، في جوهرها، هي إحدى تلك الرذائل الأخلاقية التي تعود جذورها إلى حب الذات، والتكبر، وعدم الرضا بالقضاء الإلهي. عندما يشعر الفرد بأنه قد ظُلم أو انتهكت حقوقه، ودون اللجوء إلى الصبر والمغفرة، تُزرع بذرة الضغينة في قلبه وتنمو بمرور الوقت، ويمكن أن تشوه صفاء ونقاء الإيمان. يقدم القرآن الكريم حلولًا عملية وروحية دقيقة جدًا لمواجهة هذه التحديات. ومن أهم هذه الحلول، مفهوم "العفو والصفح". في سورة آل عمران، الآية 134، يعدد الله تعالى صفات المتقين فيقول: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"؛ أي: "الذين يكظمون الغيظ ويعفون عن الناس؛ والله يحب المحسنين". هذه الآية تبين أن كظم الغيظ والعفو عن أخطاء الآخرين ليسا فقط صفتين من صفات المتقين، بل يجلبان محبة الله أيضًا. الضغينة هي في الواقع استمرار وغلبة للغضب المكبوت وعدم المغفرة. إذا تم التحكم في الغضب ووصل إلى مرحلة العفو، فلن تجد الضغينة فرصة لتنبت. أحيانًا، تكمن جذور الضغينة في الأنانية والشعور بأن "أنا على صواب وهو مخطئ". في مثل هذه الحالات، يدعونا القرآن إلى التواضع وقبول أخطائنا أو حتى تجاهل أخطاء الآخرين. في سورة الأعراف، الآية 199، يقول تعالى: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ"؛ أي: "خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين". هذه الآية لا تؤكد فقط على العفو، بل تقدم أيضًا حل الإعراض عن الجاهلين. وهذا يعني أنه في بعض الأحيان، أفضل طريقة للتخلص من الضغينة والصراعات الذهنية هي تجاهل أفعال وأقوال أولئك الذين يفتقرون إلى الحكمة والبصيرة الكافية. أهمية صفاء القلب من الضغينة والغل مذكورة بجمال في سورة الحشر، الآية 10، حيث يدعو المؤمنون لأنفسهم ولإخوانهم المؤمنين: "وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ"؛ أي: "ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم". هذا الدعاء يدل على وعي المؤمنين الأوائل بخطر الضغينة وسعيهم لاستئصالها من القلوب. إن الضغينة تجاه المؤمنين تعرض وحدة وتضامن المجتمع الإيماني للخطر وتؤدي إلى الفرقة. هذا الدعاء في الحقيقة هو درس عملي بأنه للحفاظ على الصفاء والأخوة، يجب أن نطلب من الله أن يطهر قلوبنا من كل ضغينة وسوء نية. علاوة على ذلك، يقدم القرآن الكريم في سورة فصلت، الآيتين 34 و 35، طريقة عملية لتحويل العداوة إلى صداقة، مما يقضي فعليًا على جذور الضغينة: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ"؛ أي: "لا تستوي الحسنة ولا السيئة. ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم". تؤكد هذه الآيات أن دفع السيئة بالحسنة يتطلب صبرًا وإرادة قوية. عندما نستجيب بالحسنى بدلًا من المعاملة بالمثل أو الانتقام، فإننا لا نجفف جذور الضغينة في الطرف الآخر فحسب، بل نحرر قلوبنا أيضًا من عبء الضغينة الثقيل. باختصار، وجود الإيمان لا يعني عدم اختبار المشاعر الإنسانية، بل يعني امتلاك الأدوات والتوجيهات لإدارة هذه المشاعر. الإيمان القوي يمكّن الفرد من: 1. التعرف على جذور الضغينة في نفسه (مثل الكبر، حب الدنيا، عدم الثقة بالعدل الإلهي). 2. كظم غضبه والتحرك نحو العفو والصفح. 3. أن يطلب بالدعاء والتضرع من الله أن يطهر قلبه من أي ضغينة. 4. في الممارسة العملية، أن يرد السيئة بالحسنة ليطهر محيطه أيضًا من الضغينة. هذا المسار هو صراع داخلي، وكلما ثابرنا فيه، أصبح قلبنا أكثر نورانية وتعمق إيماننا، وتحقق الطمأنينة الحقيقية في ظله. وتذكر أن الدنيا دار ابتلاء وأن العدل النهائي سيكون في الآخرة، يمكن أن يساعد أيضًا في التخلص من الضغائن الدنيوية ويدفعنا نحو المغفرة والصفاء.
يُروى أنه في زمن من الأزمان، كان هناك درويش زاهد يقضي عمره في العبادة والتقوى. كان له جار يؤذيه مرارًا ويحمل له الضغينة. وعلى الرغم من إيمان الدرويش وعباداته الكثيرة، كلما رأى جاره، كانت تتولد في قلبه ضغينة، وكان يقول لنفسه: "كيف لي أن أزيل هذا الأذى من قلبي؟" ذات ليلة، في خلوته، تضرع إلى الله بقلب منكسر، وطلب من ربه أن يعينه على إخراج هذه الضغينة من قلبه. فنادى صوت في قلبه: "يا عبدنا، إذا أردت أن يصفو قلبك ويكتمل إيمانك، فحين تراه، بدلًا من اللوم والمرارة، ادعُ له واطلب له الخير من الله." استمع الدرويش للنصيحة وعمل بها. في كل مرة يرى جاره، لم يعد يحمل له الضغينة فحسب، بل كان يدعو له في قلبه ويتجاوز عن سيئاته. لم يمض وقت طويل حتى لم ترحل الضغينة من قلب الدرويش فحسب، بل شعر الجار بالخجل وجاء إلى الدرويش طالبًا المغفرة. الدرويش، بابتسامة نابعة من سلام قلبه، سامحه، وعاش الاثنان في سلام ووئام. وهكذا، فهم الدرويش أن الإيمان الحقيقي يظهر عندما يطهر القلب من كل كدر، وعندما تتمنى الخير والإحسان للآخرين، حتى لمن آذاك.