الشعور بحضور الله في الأحزان يحدث بسبب زوال حُجب الغفلة وطلب الإنسان للقوة الإلهية. هذه التجربة فرصة للنمو الروحي وفهم الحكمة الإلهية وراء الابتلاءات، وتُظهر أن الله حاضر دائمًا، لكن إدراكنا يتغير.
إن الإحساس بحضور الله في لحظات الحزن والألم هو تجربة عميقة وشائعة يواجهها الكثير من الناس طوال حياتهم. لا يعني هذا الظاهرة غياب الله في أوقات الفرح، بل تدل على تحول في حالتنا الروحية وإدراكنا لحقيقة الوجود. يشير القرآن الكريم بجمال إلى أن الله دائمًا حاضر ويراقب أحوال عباده، ولكن في أوقات الرخاء والوفرة، قد يغفل الإنسان عن ذكر ربه بسبب انغماسه في ملذات الدنيا وانشغالاتها اليومية. على النقيض، عندما تصيب الإنسان مصيبة أو شدة أو حزن، تُرفع حُجب الغفلة ويدرك الإنسان ضعفه وعجزه بالكامل. في هذه اللحظات، وبشكل لا إرادي، يمد يده طالباً العون من قوة أزلية، وهنا يشعر بحضور الله بكل كيانه. أحد الأسباب الرئيسية لهذا الشعور هو طبيعة الابتلاء والاختبار في الحياة الدنيا. لقد ذكر الله في القرآن مرارًا وتكرارًا أن الحياة هي ساحة اختبار للإنسان ليتم قياس مدى صبره وإيمانه وتوكله. فالمصائب والأحزان هي أدوات لتطهير الروح، وللتذكير، ولإعادة الإنسان إلى ربه. هذه الصعاب تجعل الإنسان يتحرر من التعلقات المادية، ويدرك حقيقة فناء الدنيا، ويوجه بؤرة اهتمامه نحو الباقي والأبدي، وهو الله. هذه الفترات هي فرصة للنمو الروحي وتقوية العلاقة مع الله؛ لأن الدعوات والمناجاة تُقال في هذا الوقت بإخلاص واضطرار أكبر، ويرى الإنسان نفسه في حاجة حقيقية إلى العتبة الإلهية. في مثل هذه الظروف، يجد الإنسان نفسه محاطًا بالمشاكل، وعندما ييأس من كل الجهات، يجد الملجأ والمأوى الحقيقي الوحيد في الله ويلجأ إليه. هذا الالتجاء يخلق ارتباطًا أقوى وأعمق مع الرب، قد لا يُحس به بنفس القدر في أيام الرخاء. يؤكد القرآن الكريم أن الله ليس معنا فقط في الأحزان، بل هو حاضر في كل لحظة وفي كل مكان. "وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ" (ق، الآية 16)؛ هذه الآية تعبر بوضوح عن قرب الله اللامتناهي من الإنسان، حتى أقرب إليه من وريده. هذا يعني أن حضور الله لا ينقطع أبدًا، ولكن إدراكنا له هو الذي يتفاوت في الشدة والضعف في الظروف المختلفة. في الواقع، تعمل الأحزان كعامل محفز يخرجنا من حالة الغفلة ويدفعنا نحو التأمل في وجودنا ووجود خالق الكون. عندما يكون الإنسان في ذروة الفرح، قد ينشغل بالملذات الزائلة بدلاً من الشكر وذكر الله، ويغفل عن المصدر الأساسي للنعم. لكن في الحزن والهم، يستيقظ إحساس الحاجة والفقر الفطري للإنسان، ويهديه نحو مبدئه ومقصده، وهو الله. هذه التجربة تدل أيضًا على الرحمة واللطف الإلهي. حتى في قلب أحلك الأحزان، يوجد نور الأمل والاتصال بالله. هذا هو ما يعنيه "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" (الشرح، الآيتين 5 و 6) الذي وعد الله به. فمع كل شدة، هناك سهولة ويسر. هذا الوعد يبعث الطمأنينة في قلوب المؤمنين ويذكرهم بأن نهاية كل ظلمة هي نور. إن الشعور بحضور الله في الأحزان يساعد الإنسان على التعامل مع المشاكل، والصبر، والبقاء متفائلاً بالمستقبل. هذا الشعور ليس مجرد رد فعل نفسي على الأزمة، بل هو فرصة للتحول الداخلي والنمو الإيماني. لذلك، لا ينبغي الخوف من الأحزان، بل يجب اعتبارها نافذة نحو معرفة أعمق بالله وتقوية الصلة به. من خلال ممارسة الذكر والدعاء والشكر في جميع الأحوال، يمكننا أن نشعر بهذا الحضور بوضوح ليس فقط في الأحزان، بل أيضًا في الأفراح ولحظات الحياة العادية، وأن نحافظ على اتصال مستمر لا ينقطع مع خالق الكون، مما يملأ حياتنا بالمعنى والسكينة.
يُروى أنه في الأزمنة القديمة، كان هناك تاجر ثري ولكنه غافل، ففي أيام الرخاء والثراء، كان قلما يتذكر الله وينشغل بزينة الدنيا. في أحد الأيام، غرقت سفنه في عاصفة شديدة في البحر، وفقد كل ما يملك. في تلك الحالة من الضيق والعجز، جلس في زاوية، يبكي بلا حول ولا قوة، وينادي الله بكل كيانه ويطلب منه العون. مر درويش من هناك، فرأى حاله، وابتسم وقال: "يا أخي، رأيتك في أيام رخاء كثيرة، ولكنك لم تذكر الله قط بمثل هذا الإخلاص. يبدو أن البحر غسل قلبك ونقّاه من قذارة الغفلة، لكي تعرف ربك كما يستحق أن يُعرف." استفاق التاجر على كلام الدرويش وفهم أن الشدائد أحيانًا ترفع الحجب عن العيون الغافلة، ليتمكن الإنسان من رؤية الحقيقة بشكل أوضح والعودة إلى ربه.