الرغبة في الابتعاد قد تكون حاجة الروح إلى السكينة والتأمل لتعميق الصلة بالله. هذه الخلوة المؤقتة هي وسيلة لاستعادة الطاقة الروحية وحماية الذات من التأثيرات السلبية للبيئة.
سؤالكم حول الرغبة في الابتعاد عن الآخرين هو شعور إنساني عميق وشائع للغاية يختبره الكثير من الأفراد في مراحل مختلفة من حياتهم. هذا الشعور ليس سلبياً بالضرورة؛ بل يمكن أن يكون علامة على حاجة الروح والنفس العميقة إلى السكينة والتأمل والتجديد الداخلي. القرآن الكريم، وإن لم يتطرق مباشرة إلى عبارة "الابتعاد عن الجميع"، إلا أنه يقدم مبادئ وتوجيهات تفسر هذا الميل في إطار روحي وبناء، ويوضح مسارات صحية للاستجابة له. أحد الجوانب التي يوليها القرآن أهمية هو مفهوم "الخلوة" و"التأمل". قبل نزول الوحي، قضى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وقتاً طويلاً في الخلوة والعبادة في غار حراء. لم تكن هذه الخلوة مجرد هروب من ضجيج المجتمع في ذلك الوقت، بل كانت فرصة للتواصل الأعمق مع الخالق والإعداد للرسالة الإلهية العظيمة. هذا المثال يوضح أن الابتعاد عن البيئة الصاخبة والدخول إلى مساحة أكثر هدوءًا يمكن أن يساعد في النمو الروحي ووضوح الفكر. فترة "الخلوة" هذه هي فرصة للمحاسبة الذاتية، وتقييم مسار الحياة، وتقوية الصلة بالله. في الواقع، هذا النوع من الابتعاد ليس محاولة للهروب من الواقع، بل هو غوص في حقيقة وجودية وروحية أعمق. يمكن أن تشمل هذه الخلوة زيادة الوقت المخصص للصلوات الفردية، وتلاوة القرآن بتدبر، أو ببساطة الجلوس في صمت والتأمل في عظمة الخلق ومكانة الإنسان فيه. هذا يساعد الإنسان على الابتعاد عن تدفق المعلومات والمحفزات الخارجية، مما يسمح له بالاستماع إلى نداء داخله وفطرته. يؤكد القرآن بشدة على أهمية "الذكر" و"ذكر الله". في سورة الرعد، الآية 28، يقول الله تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب). أحيانًا، تنشأ الرغبة في الوحدة والابتعاد عن الآخرين من حاجة شديدة للسكينة؛ سكينة يصعب العثور عليها وسط صخب الحياة اليومية والتفاعلات الاجتماعية المليئة بالضجيج. في مثل هذه اللحظات، يبحث الفرد لا شعورياً عن مساحة يستطيع فيها، دون تشتيت، أن ينشغل بذكر الله، ويؤدي الصلاة، ويتلو القرآن، وفي النهاية يحقق السلام الداخلي. هذا النوع من الوحدة ليس عزلة سلبية ومنعزلة، بل هو "خلوة بناءة" تساعد الفرد على استعادة طاقته الروحية والعودة إلى الحياة الاجتماعية بنشاط متجدد. هذا البناء الذاتي واستعادة الطاقة الداخلية، ضروري لكل نشاط خارجي فعال وكل تفاعل إيجابي مع الآخرين. تمامًا كالبستاني الذي يحتاج أحيانًا إلى الخلوة والتركيز لرعاية جذور النباتات، يحتاج الإنسان أيضًا إلى مثل هذه الخلوات لسقي وتربية روحه. علاوة على ذلك، يعلمنا القرآن أن نبتعد عن البيئات والرفقات التي تؤثر سلباً على أرواحنا وعقولنا. في سورة الفرقان، الآية 72، يقول تعالى: "وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا" (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما). أحيانًا، يؤدي الإرهاق من "اللغو"، والغيبة، والجدالات العبثية، أو البيئات السلبية إلى رغبة الإنسان في الابتعاد عنها. هذا الابتعاد هو شكل من أشكال "حماية الذات"؛ حماية السلامة الروحية والأخلاقية من التلوث البيئي والطاقات السلبية. هذا لا يعني قطع العلاقات تمامًا، بل يعني اختيار التفاعلات بوعي والحفاظ على الحدود التي تمنع دخول الطاقات السلبية إلى الحرم الداخلي. هذا النهج لا يدعمه الإسلام فحسب، بل يوصى به أيضًا في علم النفس الحديث باعتباره "تحديد الحدود" للحفاظ على الصحة العقلية. عندما تشعر بأن تفاعلاتك الاجتماعية تستنزفك أو تقودك نحو مسارات غير أخلاقية، فإن الانسحاب المؤقت والذكي هو حل قرآني للحفاظ على النقاء والسلام الداخلي. من الأهمية بمكان أن نميز بين "الابتعاد البناء" و"العزلة الضارة". الإسلام هو دين الجماعة ويؤكد على الحقوق المتبادلة بين البشر وأهمية "الأمة". العزلة الكاملة والدائمة التي تؤدي إلى قطع صلة الرحم، وترك المسؤوليات الاجتماعية، والهروب من المشاكل، ليست مقبولة في القرآن. قال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم". لذلك، يجب أن تكون الرغبة في الابتعاد مؤقتة وهادفة: للتجديد، والتفكير، والعبادة الأعمق، أو حماية الذات من الأذى. يجب أن يساعد هذا الابتعاد الفرد على تحقيق "التوازن" في حياته بدلاً من أن يتحول إلى انزواء وانعزال دائم؛ توازن بين الخلوة والجلوة، بين الاحتياجات الروحية والمسؤوليات الاجتماعية. هذا التوازن هو الأساس في بناء حياة صحية وإسلامية. بعبارة أخرى، يمكن أن يكون هذا الميل علامة على أنك بحاجة إلى التعمق في عالمك الداخلي، والاستماع إلى صوت فطرتك، وتجديد عهدك مع خالقك. في هذه الحالة، فإن الابتعاد المؤقت عن صخب وانشغالات الدنيا ليس ضعفًا، بل هو فرصة لتقوية الروح، وتوضيح الأفكار، واستعادة السلام الداخلي. تتيح لك هذه الفرصة العودة إلى التفاعلات الاجتماعية برؤية أوضح وقلب أهدأ، ومواصلة علاقاتك بجودة أفضل. هذه العملية تشبه انسحاب الجندي لإعادة تنظيم القوات للعودة إلى الميدان بقوة أكبر، أو شحن البطاريات الروحية والمعنوية. في الختام، يعلمنا القرآن أن نكون نشطين في المجتمع وأن نحتفظ بمساحة لبناء الذات والتواصل مع الخالق، وهذا التوازن هو الذي يضمن السعادة في الدنيا والآخرة. هذا الشعور يذكرنا بالنقطة الهامة وهي أن الإنسان ليس مجرد كائن اجتماعي، بل هو كائن روحي أيضًا يحتاج إلى مساحة للتنفس والتواصل العميق مع مصدر الوجود.
في كتاب گلستان لسعدي، يُروى أن درويشاً كان قد سئم من صخب المدينة وأحاديث الناس الفارغة. فوجد زاوية منعزلة في قلب بستان وانشغل فيها بالعبادة والتأمل. جاء أصدقاؤه لزيارته وسألوه: «أيها الشيخ، لماذا اعتزلت جماعتنا واخترت زاوية العزلة؟» فابتسم الدرويش وقال: «أنا لا أبتعد عنكم، بل أقترب من نفسي. ففي صخب الأسواق والمجالس الكثيرة الحديث، يصاب أذن القلب بالصمم وتعمى عين البصيرة. أريد في هذه الخلوة أن أسمع صوت الحقيقة وأرى نور المعرفة. ومتى ما هدأت روحي وامتلأ قلبي بالنور الإلهي، عندئذ سأعود إليكم بخطوات أثبت وقلب أثرى.» فتركه أصدقاؤه وذهبوا، وعاد الدرويش إلى خلوته واستمتع بالسكينة التي وجدها. هذه الحكاية تظهر أن الابتعاد أحيانًا، هو سبيل للتقرب أكثر من الذات ومن الله.