لماذا يشعر بعض الناس بفقدان الهوية؟

من منظور القرآن، ينبع الشعور بفقدان الهوية من الغفلة عن الغاية الأساسية لخلق الإنسان، وهي عبادة الله وخلافته في الأرض. كما أن الابتعاد عن الفطرة الإلهية، ونسيان الله، والتعلق المفرط بالدنيا يساهم في هذا الشعور، بينما الاتصال بالخالق وفهم المكانة الحقيقية للنفس يؤدي إلى تحقيق الهوية الكاملة.

إجابة القرآن

لماذا يشعر بعض الناس بفقدان الهوية؟

الإجابة على سؤال لماذا يشعر بعض الناس بفقدان الهوية، من منظور القرآن الكريم، عميقة جداً وتستدعي التأمل. فبالرغم من أن مصطلح "فقدان الهوية" بمفهومه النفسي الحديث لم يرد مباشرة في القرآن، إلا أن تعاليمه تتناول جذور هذا الشعور وعلاجه بشكل شامل. فالقرآن يعتبر الإنسان كائناً هادفاً، خُلق لغاية معينة. وكلما ابتعد الإنسان عن هذا الهدف الأساسي، فقد يشعر بالضياع، والفراغ، وفي النهاية بفقدان هويته. هذا الشعور بالضياع ينبع من عدة جذور يشير إليها القرآن، وفهم هذه الجذور هو المفتاح لإيجاد هوية أصيلة ومستقرة. 1. نسيان غاية الخلق ومكانة الإنسان: يُبين القرآن الكريم بوضوح أن الإنسان قد خُلق لغاية سامية. فالله تعالى يقول في سورة الذاريات، الآية 56: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". هذه العبادة لا تعني مجرد أداء الشعائر التعبدية، بل تشمل العيش وفقاً لإرادة الله وأوامره؛ أي أن يكون مطيعاً وعبداً في جميع جوانب الحياة. والإنسان في القرآن يُعرف بأنه "خليفة الله" على الأرض (سورة البقرة، الآية 30)، وهو مُكلف بمسؤولية إعمار الأرض ونشر العدل فيها، والارتقاء بالقيم الإلهية. عندما ينسى الفرد أو يتجاهل الهدف الأساسي لحياته، وهو العبودية لله والخلافة عنه، تصبح حياته بلا معنى، ويُحرم من مرساة ثابتة لهويته. هذا النسيان يترك الإنسان تائهاً في بحر الوجود بلا وجهة، وينشأ لديه شعور بانعدام الجذور وفقدان الهوية. فطرة الإنسان تبحث عن المعنى، وإذا لم يجده في اتصاله بخالق الكون ورسالته، فإنه يبحث عنه في أمور مؤقتة وغير مستقرة، مما لا يؤدي إلا إلى الفراغ، واليأس، وفقدان الهوية. فالهوية الإنسانية الحقيقية متجذرة في هذا الاتصال الأبدي، والانفصال عنه يعني فقدان أعمق طبقات الذات. 2. الابتعاد عن الفطرة الإلهية: يؤكد القرآن على الفطرة الإلهية للإنسان. ففي سورة الروم، الآية 30 نقرأ: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". الفطرة هي الجبلة النقية والميل الفطري للإنسان نحو الحق، والتوحيد، والأخلاق الحسنة، والكمال. فعندما يبتعد الإنسان عن هذه الفطرة النقية تحت تأثير عوامل خارجية كالتنشئة الخاطئة، والبيئة الفاسدة، ووساوس الشيطان، والأهواء النفسية، فإنه يعاني من التناقض والصراع الداخلي. هذا الصراع بين ما يميل إليه في عمق وجوده وما ينشغل به في حياته اليومية يؤدي إلى الارتباك وعدم معرفة ذاته الحقيقية، مما يزيد من شعوره بفقدان الهوية. وكأن الإنسان يسير عكس التيار، وكلما حاول، لا يصل إلى الراحة والوضوح. هذا الصراع الداخلي المستمر يستنزف طاقة نفسية كبيرة من الفرد ويمنعه من اكتشاف وتنمية هويته الحقيقية. فتجاهل نداء الفطرة يُبعد الإنسان عن ذاته الحقيقية ويرسله في مطاردة هويات زائفة وخارجية لا تُمنحه الرضا الدائم أبدًا. 3. الغفلة عن ذكر الله والتعلق بالدنيا: يتحدث القرآن مراراً عن "ذكر الله" وينهى عن "الغفلة". ففي سورة طه، الآية 124، جاء: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ". ذكر الله لا يمنح الطمأنينة للقلب فحسب، بل يمنح الإنسان بصيرة ليعرف مكانه في الوجود ويميز القيم الحقيقية عن القيم الظاهرية والفانية. عندما ينغمس الإنسان في أمور الدنيا ويجعل كل همه كسب المال، أو المنصب، أو الشهرة، فإنه يبني هويته على هذه المعايير غير المستقرة. وبفقدان أي منها، أو حتى بتحقيقها دون رضا داخلي، ينتابه شعور بالفراغ وفقدان الهوية. فالهوية المبنية على أمور الدنيا هي هوية هشة ومعرضة للخطر تنهار مع كل عاصفة وتضيع بسهولة. أما الهوية المبنية على ذكر الله، والإيمان، والعمل الصالح، فهي هوية ثابتة وقوية تصمد أمام شدائد الحياة وتُمنح الإنسان شعوراً بالثبات والاستقرار. 4. عدم التعمق والتفكر في آيات الله وفي الذات: يدعو القرآن الإنسان إلى التفكر والتدبر والتعقل في آيات الله سواء في الآفاق (العالم الخارجي) أو في الأنفس (داخل الذات). فتجاهل هذه الدعوة وعدم الانشغال بمعرفة الذات ومعرفة الوجود، يجعل الإنسان محروماً من المعرفة العميقة لنفسه ومكانته في هذا الكون. فعندما لا ينظر الإنسان إلى داخله ولا يتعمق في تعقيدات وجوده، لا يستطيع التعرف على مواهبه، ونقاط قوته وضعفه، ومسار نموه الصحيح. هذا الجهل بالذات يؤدي تدريجياً إلى شعور بانعدام الأساس وفقدان الهوية. لإيجاد هويته، يحتاج الإنسان إلى التأمل في سبب وجوده وعلاقته بالمبدأ والمعاد. فالغفلة عن هذه التأملات تحول الإنسان إلى كائن سطحي يستمد هويته من التقليد الأعمى للآخرين أو مما يمليه عليه المجتمع؛ وهي هوية غير أصيلة ولا يمكن أن تجلب الرضا الداخلي. فالتفكير والتأمل العميقان يهديا الإنسان إلى معرفة ذاته الحقيقية والأصيلة، ويمنحانه فهماً عميقاً لمعنى الحياة وهدفها. 5. عدم أداء الأدوار الاجتماعية والعزلة عن المجتمع الصالح: يؤكد القرآن على أهمية المجتمع ودور الفرد فيه. فالإنسان كائن اجتماعي، وجزء من هويته يتجلى في تفاعلاته وأدائه لأدوار إيجابية في المجتمع. فالانسحاب من المجتمع، أو الانعزال، أو عدم المشاركة في الأعمال الخيرة والبناءة، يمكن أن يؤدي إلى شعور بعدم القيمة وعدم المعنى. وعلى الرغم من أن القرآن يؤكد على الفردية والمسؤولية الشخصية، إلا أنه يبرز أيضاً دور "الأمة" والتعاون في أعمال البر. فالانضمام إلى مجتمع صالح وأداء الأعمال الصالحة للآخرين يمنح الإنسان شعوراً بالانتماء والفائدة والقيمة، وكلها مكونات مهمة للهوية السليمة. فغياب هذا الانتماء والمشاركة يمكن أن يضع الفرد في فراغ اجتماعي يفاقم شعوره بفقدان الهوية. الحلول القرآنية للتغلب على فقدان الهوية: يقدم القرآن حلولاً شاملة لتحقيق هوية قوية وذات معنى: العودة إلى الله وفهم التوحيد، العمل بأوامر الله، ذكر الله الدائم، التفكر والتدبر في آيات الله وفي الذات، الانضمام إلى المجتمع الصالح وأداء دور بناء فيه، والصبر والثبات في مواجهة المشاكل والامتحانات. باتباع هذا المسار، يخرج الإنسان من حالة الضياع وفقدان الهوية، ويصل إلى هوية واضحة، قوية، ومليئة بالمعنى، متجذرة في حقيقة الوجود. هذه الهوية تمنح الإنسان السكينة، والهدف، والرضا الحقيقي، وتضعه على طريق النمو والارتقاء.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

سمعت عن تاجر ثري، على الرغم من امتلاكه كنوزًا من المجوهرات والممتلكات، كان يشعر دائمًا بفراغ وقلق. ذات يوم، اقترب من حكيم مسن وورع، درويش كان يعيش في سلام في زاوية صومعة متواضعة. قال التاجر: "يا شيخ، لقد سئمت من كل هذا الثراء والعظمة؛ روحي مضطربة. أشعر بالضياع وبفقدان الهوية، على الرغم من أن الجميع يعرفني ويحسدني على ثروتي." ابتسم الحكيم وقال: "يا بني، السفينة التي لا دفة لها، مهما كانت عظيمة ورائعة، لن تصل أبدًا إلى شاطئها المقصود وستظل تائهة في الأمواج. الهوية الحقيقية للإنسان ليست في المجوهرات التي يرتديها، ولا في البيوت التي بناها، بل في قلبه الذي يعمر بذكر الله ويعرف طريقه. إذا لم تنظر إلى نفسك في مرآة الأعمال الصالحة والنوايا الحسنة، فلن تجد ذاتك الحقيقية أبدًا. أنت تبحث عن الكنز في الخارج، بينما أنت كنز داخلي بنفسك." تأثر التاجر بشدة بهذه الكلمات. ومنذ ذلك اليوم، بدلاً من زيادة ثروته، كرس نفسه لتطهير روحه والتقرب إلى الله. ووجد السكينة الحقيقية والهوية المستقرة في داخله، طعماً لم يذقه من قبل.

الأسئلة ذات الصلة