يتعب الإنسان من التكرار لأن فطرته تتوق للابتكار والتطور، والكون ذاته في ديناميكية وتنوع مستمرين. هذا التعب هو دافع للبحث عن معنى أعمق ونمو شخصي.
يعود سؤال لماذا يتعب الإنسان من التكرار إلى فهم عميق لطبيعة الإنسان وحكمة الخلق. ورغم أن القرآن الكريم لم يتناول مباشرة عبارة "التعب من التكرار"، إلا أن التأمل في الآيات الإلهية والتعاليم القرآنية المتعلقة بخلق الإنسان، وهدفه من الحياة، وخصائص الكون، يمكن أن يوفر إجابات منيرة. فأساساً، خلق الله الإنسان كائناً ديناميكياً، باحثاً، وطالباً للتطور. وتتعارض هذه الخصائص مع الجمود والتكرار المحض، حيث إن التكرار بلا هدف أو معنى يمكن أن يؤدي إلى الركود والفتور. أحد أهم أسباب التعب من التكرار يعود إلى "فطرة" الإنسان. يشير القرآن مراراً إلى الطبيعة المتغيرة والمتطورة باستمرار للكون. فالليل والنهار، والفصول، ونمو النباتات، ودورة الحياة والموت؛ كلها علامات على الديناميكية والابتكار في الخلق الإلهي. الله، سبحانه وتعالى، يقدم نفسه على أنه الخالق والمدبر للكون، الذي هو في كل لحظة في خلق وتدبير أموره (سورة الرحمن، الآية 29: "كُلَّ یَوْمٍ هُوَ فِی شَأْنٍ"). الإنسان، الذي هو "خليفة الله" في الأرض وخلق للعمارة والتنمية، تتوافق فطرته مع هذه الديناميكية. الرغبة في الابتكار، والاكتشاف، وتجربة أشياء جديدة، والتقدم، جزء لا يتجزأ من وجوده. التكرار الصرف، دون مصاحبة النمو والسمو، لا يلبي هذه الحاجة الفطرية، ومع مرور الوقت يولد شعوراً بالتعب والفتور. تتجلى هذه الحاجة إلى التنوع والنمو ليس فقط في الأمور الدنيوية، بل حتى في العبادات. فعلى الرغم من أن العبادات كالصلاة قد تبدو متكررة في ظاهرها، إلا أن هدفها ليس التكرار الميكانيكي، بل تعميق الصلة، وزيادة حضور القلب، والوصول إلى "الخشوع". كل صلاة هي فرصة جديدة للارتقاء الروحي والتقرب أكثر إلى الله. ويحدث التعب من العبادات عندما يغفل الإنسان عن معناها الباطني وهدفها الأصلي ويكتفي بظاهرها المتكرر. في الحقيقة، التكرار في العبادات هو وسيلة للتذكير، وتثبيت، وتأصيل الحقائق الروحية، وليس سبباً للملل. كما أن القرآن يصف الحياة الدنيا بأنها ساحة للاختبار والابتلاء (سورة الملك، الآية 2: "الَّذِی خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَیَاةَ لِیَبْلُوَکُمْ أَیُّکُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا"). والاختبارات والتحديات تتطلب بطبيعتها التغيير، ومواجهة مواقف جديدة، والخروج من منطقة الراحة والتكرار. فلو كانت الحياة كلها تكراراً ورتابة، لما توفرت مساحة كافية لظهور الصبر، والشكر، والتوكل، والإبداع، والنمو الأخلاقي. هذه التغيرات والتقلبات هي التي تصقل جوهر وجود الإنسان وتدفعه نحو الكمال. يمكن أن يكون التعب من التكرار مؤشراً على أن روح الإنسان تبحث عن تجارب جديدة وتعلم من مواقف مختلفة لتتمكن من تفعيل قدراتها والسير في مسار التطور. كما أن آيات القرآن حول جمال وتنوع الخلق (مثل تنوع الألوان، والفواكه، واللغات، والمخلوقات المختلفة) هي دليل على أن الله يحب التنوع، وأن الإنسان بفطرته يميل إليه. هذا التنوع في الخلق هو علامة على القدرة والحكمة الإلهية، واستجابة لحاجة الإنسان الفطرية إلى التغيير والتجديد. لذا، يمكن اعتبار التعب من التكرار انعكاساً لطبيعة الإنسان الباحثة والمتطورة، التي تسعى باستمرار نحو النمو، والاكتشاف، والتحول، وتكره الجمود والركود. هذا التعب ليس عيباً، بل هو دافع داخلي يدفع الإنسان نحو آفاق جديدة ومعاني أعمق، لئلا يقع في حلقة مفرغة وعديمة الهدف ويظل بعيداً عن مسار خلقه الأصلي وهو السعي نحو الكمال والتقرب الإلهي. في النهاية، يبحث الإنسان عن معنى يتجاوز التكرار اليومي، وهذا البحث يهديه نحو الله، مصدر كل معنى وهدف.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك ملك يمتلك كل شيء؛ قصوراً فخمة، وحدائق غناء، وخدماً ينفذون كل أمره بلا تردد. ولكن بعد سنوات، شعر الملك بالتعب والملل من هذه الحياة الرتيبة الخالية من المتاعب. كل يوم نفس المهام المتكررة، نفس الأطعمة، نفس الكلمات المليئة بالمدح. ذات يوم، استدعى وزيره الحكيم وقال له: "يا وزير، رغم كل هذه النعم، قلبي سئم هذا التكرار. كأن روحي محبوسة في قفص ذهبي. ماذا أفعل؟" ابتسم الوزير وقال: "يا جلالة الملك، روح الإنسان كالمياه الجارية، إن بقيت في مكان واحد، تعكرت وتجمدت؛ أما إن استمرت في الحركة والتغيير، بقيت صافية ومانحة للحياة. هذا التعب علامة على ميل روحك الفطري نحو الديناميكية والابتكار." سأل الملك: "فما هو العلاج؟" أجاب الوزير: "يجب أن تخرج نفسك من دائرة التكرار هذه. اذهب بين الناس، اسأل عن أحوالهم، عالج مشاكلهم، تعلم عملاً جديداً، أو حتى اعمل في مزرعة صغيرة واستمتع بمتعة نمو البذور وتفتح الزهور. حينها سترى أن لكل يوم شأناً وعملاً جديداً، ولكل لحظة معنى جديداً." عمل الملك بنصيحة الوزير. سافر، وجلس واختلط بالناس العاديين، وتعلم مهارات جديدة، وحتى في بعض الأحيان، بدلاً من مجرد إصدار الأوامر، كان يباشر بنفسه في شؤون الدولة. لم يمض وقت طويل حتى فارقه الملل، وأصبحت حياته مليئة بالحيوية والنشاط والمعنى. أدرك أن السعادة ليست في الجمود، بل في الحركة والتنوع، وأن هذه الرغبة في التغيير هي بحد ذاتها رحمة إلهية ليتحرر الإنسان من الركود واللاجدوى.