يعزو القرآن رغبة الإنسان الشديدة في المزيد إلى نسيان الهدف الحقيقي من الخلق والانشغال بالمنافسات الدنيوية، ولكن يمكن إدارة هذه الرغبة من خلال القناعة والشكر وتذكر الآخرة.
لماذا يسعى الإنسان دائمًا إلى المزيد؟ هذا سؤال عميق الجذور في الفطرة البشرية، وقد تناوله القرآن الكريم ببصيرة نافذة. حقًا، إذا نظرنا إلى حياة البشر عبر التاريخ وفي المجتمعات المختلفة، فإننا نشهد باستمرار هذه الرغبة التي لا تشبع في اكتساب المزيد من الثروة، والمكانة الأعلى، والمعرفة الأوسع، والسلطة الأكبر، وحتى المتعة الأوفر. هذا السعي اللامتناهي وراء "المزيد" هو ظاهرة عالمية ومنتشرة تم تحليلها بوضوح في آيات القرآن. يصف القرآن الكريم هذا الميل إلى "الزيادة والتكاثر" كجزء من طبيعة الإنسان، ولكن ليس بمعنى أنه يؤدي بالضرورة إلى الهلاك، بل كصفة يمكن أن توجه الإنسان نحو الكمال أو تدفعه إلى الهاوية. في سورة التكاثر (102: 1-2)، يقول الله تعالى: "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ" (ألهتكم المنافسة في الدنيا، حتى زرتم المقابر). هذه الآية توضح بشكل جميل كيف أن المنافسة والسعي لزيادة الثروة والأولاد والسلطة وكل ما هو دنيوي، يمكن أن يصرف الإنسان عن الهدف الأساسي من خلقه وعن تذكر الآخرة. "التكاثر" هنا يعني التفاخر بكثرة الأموال والأولاد والتنافس في طلب المزيد، مما يشغل الإنسان حتى لحظة الموت. يتضح هذا الميل إلى المزيد في آيات أخرى أيضًا. فعلى سبيل المثال، في سورة العاديات (100: 8)، نقرأ: "وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ" (وإنه على حب المال شديد الحرص). هنا، "الخير" يُقصد به المال والثروة، وتؤكد الآية على شدة تعلق الإنسان بجمع المال. وبالمثل، في سورة الفجر (89: 20)، يقول الله تعالى: "وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا" (وتحبون المال حبًا شديدًا). تقدم هذه الآيات صورة واضحة للميل الطبيعي للإنسان نحو المال والدنيا. هذا الميل ليس سلبيًا بطبيعته، إذ يمكن أن يكون دافعًا للجهد والبناء والتقدم، ولكن عندما يتجاوز حد الاعتدال ويصبح هو الهدف الأسمى، يتحول إلى شيء مدمر لروح الإنسان ونفسيته. ولكن ما هي جذور هذا الميل إلى "المزيد"؟ أحد الأسباب الرئيسية هو الشعور بانعدام الأمان والخوف من المستقبل. يسعى الإنسان غريزيًا إلى الأمان، وكثيرًا ما يعتقد أن امتلاك المزيد سيضمن له هذا الأمان. يشمل ذلك الأمان المالي والاجتماعي وحتى النفسي. فالخوف من الفقر، والخوف من فقدان المكانة، والخوف من عدم تحقيق الطموحات، كلها يمكن أن تغذي هذه الدورة اللامتناهية من السعي وراء المزيد، مما يبقي الإنسان في بحث دائم عن السلام والاستقرار، غافلًا عن أن السلام الحقيقي يكمن في الداخل. سبب آخر هو المقارنة الاجتماعية والتفاخر. الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي، وكثيرًا ما يقارن نفسه بالآخرين. رؤية ثروة ونجاح الآخرين يمكن أن تخلق لديه شعورًا بالحاجة إلى امتلاك المزيد حتى لا يتخلف عن الركب أو حتى يتفوق على الآخرين. هذا هو مفهوم "التفاخر" المشار إليه في سورة الحديد (57: 20): "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ" (اعلموا أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد). تقدم هذه الآية الدنيا كمجال للمنافسة في الجمع والتفاخر؛ منافسة غالبًا ما تكون عقيمة ومجهدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الغفلة عن الهدف الأساسي من الخلق تساهم أيضًا في هذا الميل إلى المزيد. إذا رأى الإنسان أن هدفه الوحيد يكمن في الملذات الدنيوية وكسب المال والمكانة، فمن الطبيعي ألا يشبع أبدًا، لأن الدنيا بطبيعتها محدودة وفانية ولا يمكنها إرضاء الروح البشرية غير المحدودة. يذكر القرآن الإنسان باستمرار بأن هذه الحياة مؤقتة وأن الحياة الحقيقية والدائمة هي حياة الآخرة. التركيز على الدنيا ونسيان الآخرة يحبس الإنسان في هذه الدورة اللامتناهية ويجعله غافلًا عن حقيقة وجوده. ويلعب الشيطان أيضًا دور المغوي في هذا الصدد، ويسوق الإنسان نحو الجشع والآمال الطويلة. ومع ذلك، فإن القرآن، إلى جانب بيان هذه الخصائص البشرية، يقدم أيضًا حلولًا وعلاجات حتى يتمكن الإنسان من إدارة هذه الرغبة وتحقيق السعادة الحقيقية. أحد أهم الحلول هو "القناعة" والرضا بما قسمه الله للإنسان. القناعة لا تعني التوقف عن السعي، بل تعني إيجاد السلام والرضا فيما هو متاح وتجنب الطمع والجشع المفرط. قال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): "القناعة كنز لا يفنى". القناعة تساعد الإنسان على الاستمتاع بما لديه بدلًا من المعاناة من عدم امتلاك ما يشتهيه. طريق آخر هو "الشكر". عندما يركز الإنسان على النعم التي أنعم الله بها عليه بدلًا من التركيز على ما ينقصه، يمتلئ قلبه بالرضا، وتقل الرغبة اللامتناهية في المزيد. الشكر هو بوابة لزيادة البركات الإلهية والرضا الداخلي. كما يؤكد القرآن على أهمية "الإنفاق" في سبيل الله. عندما ينفق الإنسان مما لديه، فإنه لا يساعد الآخرين فحسب، بل يحرر نفسه أيضًا من أسر المال والدنيا. يساعد الإنفاق الإنسان على فهم أن المال ليس سوى وسيلة لتحقيق أهداف أسمى، وليس غاية نهائية أو دائمة. أخيرًا، "تذكر المعاد" والتركيز على الحياة الآخرة أمر بالغ الأهمية. عندما يتذكر الإنسان أن كل هذه الممتلكات الدنيوية يجب أن تترك، وأن العمل الصالح والتقوى فقط هي التي ستبقى معه، فإن نظرته إلى الدنيا تتغير. وبدلًا من تكديس المال، يركز على جمع الزاد للآخرة. هذه هي البصيرة التي يمكن أن تنقذ الإنسان من فخ التكاثر وترشده إلى السلام والسعادة الحقيقية. القرآن لا يقول إن الإنسان لا ينبغي أن يسعى أو أن يصبح ثريًا؛ فالإسلام دين اعتدال ويشجع على العمل والكسب الحلال والتقدم المشروع؛ لكن هذا السعي يجب أن يكون مصحوبًا بالاعتدال والقناعة والانتباه لحقوق الآخرين وحقوق الله. يجب على الإنسان أن يتذكر أن كل شيء من الله، وأنه المالك الحقيقي. هذه النظرة تحرر الإنسان من براثن الجشع وتمنحه سلامًا عميقًا لا يمكن لأي قدر من مال الدنيا أن يوفره. إن فهم أن عدم الشبع لا يمكن حله إلا بالاتصال بالمصدر الإلهي اللامتناهي وإيجاد المعنى في الحياة الروحية، هو مفتاح التحرر من فخ "المزيد" الأبدي. بهذه الطريقة، يمكن للإنسان أن ينجح في الدنيا وأن يجمع زاده للآخرة، دون أن يستعبده الإفراط في الرغبة ويحد حياته بالرغبات المادية فقط.
جاء في بستان السعدي أن ملكًا كان ذا ثروة عظيمة وخزائنه تفيض بالذهب والجواهر، لكن الابتسامة لم تعلُ وجهه قط. كان دائم السعي لفتح بلاد أخرى وإضافة المزيد من المال إلى ممتلكاته. كان لديه وزير حكيم ينصحه مرارًا وتكرارًا، لكن الملك لم يكن يصغي. في أحد الأيام، بينما كان الملك يتجول في حديقة جميلة، مر بدرويش كان جالسًا بهدوء تحت شجرة، يأكل خبزًا يابسًا بمنتهى السكينة. سأل الملك بتعجب: "يا درويش، في هذا العالم المليء بالمتاعب، كيف تجلس هكذا بهدوء وبلا هموم؟ ألا تشتهي المال والجاه؟" أجاب الدرويش بابتسامة: "يا ملك! أنت تملك ثروات العالم، لكن قلبك لا يشبع أبدًا، لأن شبعك ليس فيما تملك، بل في رضاك عنه. أنا قانع بما لدي، وقلبي متحرر من قيود الجشع. ما تسعى إليه أنت هو السلام الذي أجده في هذا الخبز اليابس وظل الشجرة، لأني لا أرى حاجة لأكثر من ذلك. إذا لم يشبع هذا القلب، فمهما أعطيته، سيظل يطلب 'المزيد'، وهذا الطلب اللامتناهي سيسرق منك سلامك." فكر الملك في كلام الدرويش وفهم أن شبع القلب ليس بكثرة المال، بل بالقناعة والرضا. ومنذ ذلك الحين، قلَّ سعيه وراء المزيد، وركز أكثر على السلام الداخلي والشكر.