ينشأ الشعور بالفراغ في الأعمال الصالحة غالبًا عن نقص الإخلاص في النية والغفلة عن ذكر الله. ويتحقق السلام الحقيقي عندما تُؤدّى الأعمال بإخلاص لوجه الله وتطمئن القلوب بذكره.
إن الشعور بالفراغ أو اللاشيء، حتى عند الانخراط في الأعمال الصالحة وتقديم الخير للآخرين، هو إحساس معقد ومحير يمر به الكثيرون. قد يبدو متناقضاً للوهلة الأولى: كيف يمكن لعمل يُفترض أن يجلب الرضا والسعادة أن يورث إحساساً بالخواء؟ للإجابة على هذا التساؤل العميق، نعود إلى تعاليم القرآن الكريم الذي يقدم لنا بصائر حكيمة حول طبيعة الإنسان، الغاية من الوجود، ومصادر السعادة الحقيقية. القرآن يرشدنا إلى أن قيمة العمل الصالح ليست في ظاهره فحسب، بل في جوهره، وفي القلب الذي ينبع منه، وفي الهدف الأسمى الذي يتجه إليه. أولاً، الجوهر الأساسي للأعمال الصالحة في الإسلام هو "الإخلاص". الإخلاص يعني أن يكون القصد من العمل هو وجه الله وحده، وليس ابتغاء مدح الناس، أو الحصول على منفعة دنيوية، أو حتى الشعور بالرضا الذاتي المجرد عن القصد الإلهي. الله سبحانه وتعالى يقول في سورة البينة (الآية 5): "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ". هذه الآية تؤكد أن جوهر الدين والعبادة يكمن في إخلاص النية لله. عندما يقوم الإنسان بعمل الخير بنية مادية بحتة – كالحصول على الشهرة، أو الثناء، أو لرد الجميل فقط، أو حتى لتخفيف الشعور بالذنب دون ربطه بالقصد الإلهي – فإن هذا العمل قد يُشعر صاحبه بفراغ بعد انتهائه. لأنه لم يتصل بالمصدر الأبدي للطاقة الروحية والرضا، وهو الله عز وجل. الرضا الحقيقي والسعادة المستمرة تنبع من معرفة أن العمل قد قُبل عند الله، وهذا يتطلب إخلاصاً لا يتزعزع. إذا كان العمل يُقدم للناس أو للنفس، فنتائجه ستكون مؤقتة وزائلة كزوال مدح الناس أو شعور الرضا اللحظي. ثانياً، القلب لا يطمئن إلا بذكر الله. القرآن الكريم يوضح هذه الحقيقة بوضوح في سورة الرعد (الآية 28): "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ". إن الروح البشرية خُلقت لتعرف خالقها وتتصل به. كل عمل صالح، إذا لم يكن مصحوباً بذكر الله، أو الوعي بوجوده وقدرته، أو التوكل عليه، فإنه قد يكون كجسد بلا روح. يمكن للمرء أن يُقدم التبرعات، أو يُساعد الفقراء، أو يُساهم في مشاريع خيرية ضخمة، لكن إن غاب ذكر الله عن قلبه، وغابت نية التقرب إليه، فإن هذا العمل، على عظمته الظاهرية، قد لا يملأ الفراغ الروحي. ذكر الله ليس مجرد تلاوة ألفاظ، بل هو حالة قلبية من الحضور والوعي بعظمة الخالق، والشكر له، والتوكل عليه في كل أمور الحياة. هذا الاتصال المستمر هو الذي يروي الروح ويمنحها السكينة، ويجعل الأعمال الصالحة مفعمة بالمعنى والبركة. ثالثاً، رؤية القرآن للحياة الدنيا والآخرة. يصف القرآن الحياة الدنيا بأنها متاع زائل، وأن الدار الآخرة هي الباقية. إذا كان الإنسان يقوم بالأعمال الصالحة وهو يتوقع منها جزاءً دنيوياً فورياً أو دائماً، فقد يصاب بخيبة أمل أو فراغ عند عدم تحقق تلك التوقعات أو عند زوالها. في سورة الكهف (الآيتان 103-104) يقول الله تعالى: "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا". هذه الآية تحذر من الأشخاص الذين يبذلون جهوداً عظيمة في الحياة الدنيا ويعتقدون أنهم يقومون بأعمال حسنة، لكن سعيهم ضاع لأن هدفهم لم يكن صحيحاً أو لأن أعمالهم لم تُبنَ على أساس الإيمان الصحيح والنية الخالصة لوجه الله. قد يشعرون بالفراغ لأن استثماراتهم العاطفية والروحية كانت في مكان غير مستقر وغير دائم. الأعمال الصالحة الحقيقية هي تلك التي تُبنى على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر، وتُرجى منها المثوبة الأخروية، وإن جاءت معها منافع دنيوية فهي فضل من الله لا غاية للعمل. رابعاً، الفراغ قد يكون رسالة إلهية. أحياناً، يكون هذا الشعور بالفراغ، حتى في أوج العطاء والخير، دعوة من الله للتأمل والتدبر. قد يكون تذكيراً بأن الروح تحتاج إلى ما هو أعمق من مجرد الأفعال الظاهرة. قد يكون دافعاً للبحث عن الكمال في الإخلاص، ولتعميق العلاقة مع الله، ولإعادة تقييم الدوافع. إنه ليس عقاباً، بل قد يكون فرصة للنمو الروحي والتقرب أكثر من الخالق. إن هذا الشعور قد يدفع المؤمن للبحث عن كمال الإيمان، وعن اليقين، وعن الطمأنينة الحقيقية التي لا تتزعزع بتبدل الظروف أو زوال الماديات. خامساً، السياق الشامل للعبادة. الأعمال الصالحة جزء لا يتجزأ من مفهوم العبادة الشامل في الإسلام. العبادة ليست مقتصرة على الشعائر الدينية فقط، بل تشمل كل فعل حسن يُقصد به وجه الله. إذا كان الشخص يُركز على جانب واحد من العبادة (الأعمال الصالحة) بينما يُهمل جوانب أخرى كالتفكر في خلق الله، أو تدبر آياته، أو الدعاء، أو تزكية النفس، أو حتى الصبر على أقدار الله، فقد يجد نفسه في حالة من عدم التوازن الروحي. هذا الخلل قد يُورث شعوراً بالفراغ، لأن الروح تحتاج إلى غذاء متكامل من جميع أشكال العبادة والتقرب. في الختام، إن الشعور بالفراغ حتى في الأعمال الصالحة يُعتبر إشارة لا تخطئ من الروح بأنها لم تجد بعدُ غايتها القصوى وملاذها الحقيقي. القرآن الكريم يُقدم العلاج الناجع لهذا الفراغ من خلال التأكيد على الإخلاص التام لله في كل عمل، وإشباع الروح بذكر الله الذي هو قوت القلوب وطمأنينتها، وفهم حقيقة الحياة الدنيا كمعبر للآخرة، وليس غاية في حد ذاتها. عندما تتجرد النوايا وتتجه القلوب بصدق نحو الخالق، يصبح كل عمل صالح، صغيراً كان أم كبيراً، مصدراً للبهجة الحقيقية، والسكينة الدائمة، والرضا الذي لا يعقبه فراغ. هذه هي الطريق إلى ملء الفراغ الروحي، وتحويل الأعمال الصالحة إلى جسور للوصول إلى مرتبة الإحسان، حيث تعيش الروح في حضرة الله دائماً.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك رجل ثري يتمتع بكرم كبير، وكان يعين الفقراء باستمرار ويبني المساجد. كان الناس يثنون عليه وكان اسمه الحسن على كل لسان. لكن مع كل هذه الأعمال الصالحة والثناء، كان يشعر بفراغ داخلي؛ وكأن لا عمل يروي روحه. ذات يوم، ذهب إلى درويش عالم وشكى له حاله. فرد الدرويش بابتسامة لطيفة: "يا صديقي، تسقي الشجرة لتثمر، لا لتزين أغصانها. النية هي روح العمل. كل ما تفعله لإرضاء الخلق، تقتصر نتيجته على ثناء الخلق وهو زائل. أما ما تفعله بإخلاص لوجه الحق تعالى، فبما أن جذوره في أرض الخلود، فإنه يعطي ثمار السلام وعدم الفراغ. اختر نيتك، لا إعجاب الناس." أخذ الرجل الثري هذه الكلمات إلى قلبه، ومنذ ذلك الحين، أخلص نيته، وبحث في كل عمل صالح عن رضا الحق وحده. ولم يمض وقت طويل حتى امتلأ قلبه بسلام دائم لم يجده من قبل قط.