لماذا لا يخبرني الله بكل شيء؟

لا يكشف الله لنا كل شيء بناءً على حكمته البالغة ورحمته الواسعة، وبهدف الحفاظ على معنى الابتلاء والإرادة الحرة للإنسان. لقد بين لنا فقط ما هو ضروري لهدايتنا وسعادتنا، وأبقى الباقي في علم الغيب لنتعلم التوكل عليه والسعي نحو الكمال.

إجابة القرآن

لماذا لا يخبرني الله بكل شيء؟

إن السؤال العميق والمثير للتأمل، "لماذا لا يخبرني الله بكل شيء؟"، يدفعنا إلى استكشاف المفاهيم القرآنية الأساسية المتعلقة بطبيعة الألوهية، ومكانة الإنسان في الوجود، وحكمة الخلق، والهدف الأسمى من الحياة. هذا الاستفسار لا يعكس فضول الإنسان الطبيعي فحسب، بل يساعدنا أيضًا على فهم أعمق للعلاقة بين الخالق والمخلوق. في الحقيقة، القرآن الكريم لا ينص صراحةً "لن أخبرك بكل شيء"، بل يقدم إجابات شاملة ومقنعة من خلال توضيح الصفات الإلهية والحكمة الكامنة وراء الكون. 1. علم الله المطلق مقابل علم الإنسان المحدود: النقطة الأولى الحاسمة التي يؤكد عليها القرآن هي الفرق الجوهري بين علم الله اللامحدود وعلم الإنسان المحدود. فالله تعالى هو عالم الغيب والشهادة، يحيط بكل ما مضى وحضر ومستقبل، وكل ما هو ظاهر وباطن. في سورة الأنعام، الآية 59، يقول الله: "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ". توضح هذه الآية بوضوح أن علم الله شامل ولا حدود له، بينما علمنا لا يمثل سوى جزء ضئيل من هذا المحيط اللامتناهي. علاوة على ذلك، في سورة الإسراء، الآية 85، يُذكر: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا". تنص هذه الآيات صراحةً على أن علمنا ضئيل جدًا مقارنة بعلم الله، وهذا التقييد هو جزء من التصميم الحكيم للخلق. 2. الحياة كاختبار (ابتلاء): أحد الأسباب المحورية التي تجعل الله لا يكشف لنا كل شيء هو أن الحياة الدنيا هي ميدان للاختبار والابتلاء للإنسان. في سورة الملك، الآية 2، يقول الله: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا". لو كان الإنسان مطلعًا على كل تفاصيل المستقبل، والعواقب الدقيقة لكل اختيار، والنتيجة النهائية لأعماله، فإن مفهوم الاختبار والاختيار الحر سيزول. يصبح الاختبار ذا معنى فقط عندما توجد عناصر من المجهول وعدم اليقين. لو كنا نعرف بالضبط أي الأعمال ستوصلنا إلى الجنة وأيها إلى النار، ولو كانت عواقب كل فعل تظهر فورًا وبشكل كامل، لما كانت هناك حاجة للإيمان بالغيب، أو التوكل على الله، أو الصبر، أو مجاهدة النفس. هذا الجهل النسبي يوفر فرصة للنمو الروحي والأخلاقي، ويدفع الأفراد نحو الجهد، والاستغفار، واللجوء إلى الله. إنه يعزز الاعتماد الحقيقي على الحكمة الإلهية بدلاً من مجرد حساب النتائج. 3. الحكمة الإلهية في حجب الغيب: إن حجب بعض الأمور، بما في ذلك علم الغيب، ليس بسبب بخل أو نقص من جانب الله؛ بل هو فعل من حكمته المطلقة ورحمته الواسعة. يمكن دراسة فوائد هذه الحكمة من عدة جوانب:

  • الحفاظ على الإرادة الحرة والمسؤولية: معرفة كل شيء كانت ستعيق الإرادة الحرة للإنسان. فلو كنا نعرف مصير كل اختيار، لما كانت قراراتنا تستند إلى "الإيمان والعمل"، بل إلى "المشاهدة واليقين المادي". هذا الوضع كان سيزيل مسؤولية الإنسان عن أفعاله. إن عنصر المفاجأة والحاجة إلى اتخاذ القرارات بناءً على المبادئ، بدلاً من النتائج المضمونة، أمر ضروري للتطور الأخلاقي واكتساب الأجر.
  • الحماية من اليأس أو الغرور: لو كان الإنسان على علم بجميع الكوارث المستقبلية، فقد يغرق في بحر من اليأس والقنوط. وعلى العكس، لو كان على علم بجميع النجاحات والانتصارات المستقبلية، فقد يسيطر عليه الغرور والكبر، مما يمنعه من الجهد والتواضع. من رحمته، حمانا الله من العلم الذي قد يضر بصحتنا النفسية والروحية.
  • تشجيع الجهد والأمل: إن عدم المعرفة الكاملة بالمستقبل يدفع الأفراد نحو الجهد، والتخطيط، والدعاء، والأمل. لو كان كل شيء معلومًا، لربما اختفت العديد من الدوافع للعمل، والتعلم، ومساعدة الآخرين، وإصلاح المجتمع. إن الدافع البشري للسعي، والابتكار، والدعاء من أجل نتائج أفضل، يُغذى إلى حد كبير بالمجهول.
  • ترسيخ مفهوم الإيمان بالغيب: الإيمان بالغيب هو أحد أهم أركان الإيمان في الإسلام، كما جاء في بداية سورة البقرة (الآية 3): "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ...". لو كان كل شيء ظاهرًا، لفقد الإيمان معناه الحقيقي، وهو "التصديق بما لا يرى". هذا الإيمان هو الذي يوجهنا نحو القيم الأخلاقية والروحية والإلهية، حتى لو لم نرَ نتائجها المادية الفورية. إنه يتطلب ثقة عميقة بوجود الله، ووعوده، وعدله، حتى عندما تكون هذه الأمور أبعد من إدراكنا الحسي.
  • الرحمة الإلهية والعطف: تخيل لو أن الإنسان علم بجميع الصعوبات والمحن التي تنتظره في المستقبل؛ لأصبحت حياته لا تُطاق. أو لو علم بالموعد المحدد لوفاته، فكيف له أن يعيش بسلام؟ إن إخفاء هذه المعلومات هو فعل من النعمة والرحمة الإلهية، مما يسمح للأفراد بمواصلة حياتهم بالأمل والسكينة، والسعي لجعل كل يوم أفضل ما يمكن أن يكون. يضمن هذا الكشف الانتقائي أن نعيش في حالة من التوقع والأمل والسعي، بدلاً من اليأس أو الرضا المسبق.
4. ما أخبرنا به الله يكفي: لقد كشف الله كل ما هو ضروري لهداية الإنسان ونجاته ورفاهيته في الدنيا والآخرة. يقدم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة (سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم) خارطة طريق شاملة لحياتنا. يشمل هذا فهم الله، والطريق الصحيح للعبادة، والأخلاق والقيم، وكيفية التفاعل مع الآخرين، والمبادئ التي تحكم المجتمع. التركيز على هذه المعارف الضرورية ينقذنا من الضياع في الأمور عديمة الفائدة والفضول غير الضروري. لقد منحنا الله الحرية لاتخاذ القرارات ضمن إطار المبادئ والأوامر التي وضعها، وتحمل مسؤولية اختياراتنا. هذه الحرية والمسؤولية تمنح حياتنا معنى وتميزنا عن الكائنات التي لا تتمتع بالوكالة. التركيز دائمًا على المعرفة القابلة للتطبيق والتي تؤدي إلى السلوك الصالح والقرب الروحي من الله. الخلاصة: لذلك، فإن عدم كشف الله لجميع الحقائق والتفاصيل ليس بسبب نقص في القدرة أو عدم اهتمام، بل هو مبني على حكمته البالغة، ورحمته الواسعة، وعدله المطلق. هذا الحجب ليس ضروريًا فقط للحفاظ على معنى الاختبار الإلهي والإرادة الحرة للإنسان، بل يمنحنا أيضًا الفرصة للسعي مع التوكل عليه، وبذل الجهد، والتحرك نحو الكمال والسعادة من خلال الإيمان بالغيب. هذا النهج هو أفضل سبيل لرعاية الإنسان وتطوره، مما يمكّن الأفراد من بلوغ القرب الإلهي من خلال خيارات واعية ومسؤولة. في نهاية المطاف، يجب أن نؤمن بما أُنزل إلينا من لدنه، وأن نستسلم لحكمته اللامتناهية فيما لا نعرفه، فهو الأرحم والأعلم.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك رجل عجوز وحكيم يعيش في مدينة، وكان دائمًا يسعى لمعرفة كل ذرة من أسرار العالم. كل سؤال يخطر بباله، كان يريد إجابته فورًا، حتى للأمور التي تفوق طاقة البشر. ذات يوم، ذهب إلى حكيم وقال بتنهيدة مليئة بالحسرة: "يا حكيم، لماذا لا يكشف الرب العليم المطلق كل شيء لعباده؟ لماذا تبقى الكثير من الأسرار مخبأة في غيب؟ لو عرفنا ما يخبئه المستقبل، أو نتيجة كل عمل، لربما أصبحت الحياة أسهل!" ابتسم الحكيم ابتسامة دافئة وقال بهدوء: "يا صديقي المتعطش للمعرفة! تخيل ملكًا صالحًا يمتلك كنزًا لا يُحصى من الذهب والمجوهرات. لو أعطى هذا الكنز كله لرعيته دفعة واحدة، فماذا كان سيحدث؟ هل كانوا سيقدرون النعمة؟ هل كانوا سيسعون لكسب الرزق الحلال؟ لا! ربما كانوا سيسقطون في البطالة والفساد بسبب الوفرة، وينشغلون بالنزاعات والحسد. الملك الحكيم، كل يوم، كان يمنحهم بقدر حاجتهم وما فيه صلاحهم ومنفعتهم من ذلك الكنز، حتى يقدروا النعمة ويكونوا دائمًا في سعي وأمل، ويسألون أنفسهم: 'ماذا سيحمله الغد؟'" واصل الحكيم حديثه: "هكذا هي حكمة الرب. هو أيضًا، من بحر علمه وقدرته اللامحدود، لا يكشف إلا ما هو ضروري لاختبارنا، ونمونا، وسعادتنا. لو رُفعت كل الحجب، لما كان للتوكل معنى، ولا للصبر مكانة، ولا للسعي قيمة. الأمل والخوف هما جناحا تحليق الإنسان في طريق الكمال، واللذان يكتسبان معناهما فقط في ظل الجهل النسبي بالمستقبل. لم يتركنا الله في جهل، بل أرسل لنا هداياته الكاملة في كتابه وعبر رسله. ما يجب أن نعرفه كافٍ لهدايتنا، وما لا نعرفه، تقتضي حكمته أن يبقى في عالم الغيب حتى نتعلم أن نتوكل عليه، ونجاهد في سبيله، ونقدر كل ما هو ظاهر لنا. فاعمل وتفكر فيما هو ظاهر، وفيما هو مخفي، سلّم لحكمة الله، فهو الأعلم والأرحم." عند سماع هذه الكلمات، هدأت نفس الرجل العجوز وأدرك أن رحمة الله وحكمته أعمق من إدراكه المحدود.

الأسئلة ذات الصلة