لا يزول شعور الوحدة مع الله إلا بتعميق العلاقة القلبية، وفهم طبيعة أنواع الوحدة (الروحية والاجتماعية)، وقبولها كجزء من الابتلاء الإلهي. فذكر الله يجلب السكينة، ولكنه يتطلب حضور القلب والعمل الصالح.
إن الشعور بالوحدة هو من أعمق المشاعر الإنسانية وأكثرها تعقيدًا، وهو ما قد يختبره الكثيرون، حتى أولئك الذين يؤمنون بالله ويتواصلون معه. هذا السؤال مهم جدًا ومثير للتأمل، ويجب أن يُبحث عن إجابته في فهم أعمق لعلاقة الإنسان بالله وطبيعة هذا الشعور. القرآن الكريم، هذا الكتاب الهادي، يفتح لنا نوافذ نحو فهم هذه المسألة ويعلمنا كيف يمكننا إدارة هذا الشعور والوصول إلى السكينة الحقيقية. أولاً، يجب أن نلاحظ النقطة المهمة التالية: أن الله تعالى أقرب المخلوقات إلى الإنسان في كل لحظة. يقول القرآن في سورة ق (الآية 16): ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾. هذه الآية تُظهر بوضوح أن الله لا يبعد عنا أبدًا وأن وجوده يحيط بكياننا كله. إذا أدركنا هذه الحقيقة بشكل صحيح، فمن الناحية النظرية، لا ينبغي أن يكون هناك مكان للوحدة، لأن لدينا دائمًا رفيقًا مطلقًا لا مثيل له معنا. فلماذا لا يزول هذا الشعور أحيانًا؟ يمكن أن يكون السبب في عدة جوانب: 1. جودة وعمق العلاقة: أحيانًا قد تكون علاقتنا بالله ذات طابع ظاهري وطقسي أكثر من كونها علاقة قلبية وعميقة. فالصلاة والدعاء والذكر، على الرغم من كونها أعمالًا صالحة وضرورية، إذا لم تتم بحضور القلب والتأمل في معانيها، فقد لا تتمكن من جلب السكينة والوصل الحقيقي. يقول القرآن في سورة الرعد (الآية 28): ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾. هذه الآية تؤكد أن السكينة الحقيقية تتحقق بـ “ذكر الله”، أي بالذكر القلبي المستمر لله، وليس بمجرد تكرار الألفاظ. عندما ينشغل القلب بذكر الله حقًا، لا يبقى مكان للوحدة، لأن الروح قد اتصلت بمصدرها الأساسي للسكينة والأمان. 2. طبيعة الوحدة: يمكن أن يتخذ شعور الوحدة أشكالًا مختلفة. أحد أنواعها هو “الوحدة الروحية أو الوجودية” التي تنبع من البعد عن المعنى والهدف والحقيقة المطلقة. هذا النوع من الوحدة لا يمكن أن يزيله إلا الاتصال بالله. والنوع الآخر هو “الوحدة الاجتماعية” التي ترتبط بنقص التواصل الإنساني والأصدقاء والعائلة. يؤكد الإسلام بشدة على بناء المجتمع وصلة الرحم ومساعدة الآخرين. إذا كان الفرد منعزلًا اجتماعيًا، حتى لو كان لديه اتصال قوي بالله، فقد يظل يشعر بالوحدة الاجتماعية. يدعونا القرآن إلى الحياة الاجتماعية ومساعدة بعضنا البعض (مثل سورة المائدة الآية 2: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾). لذلك، فإن جزءًا من علاج الوحدة هو المشاركة الفعالة في المجتمع وبناء علاقات صحية. 3. الابتلاء الإلهي وحكمته: أحيانًا، يمكن أن يكون شعور الوحدة جزءًا من الابتلاءات الإلهية. يختبر الله عباده بالصعوبات والمشاعر المختلفة ليقوي إيمانهم ويصلوا إلى درجات أعلى من المعرفة والصبر. يمكن أن يكون هذا الشعور دافعًا للإنسان للتوجه أكثر نحو الله والتعمق في ذاته. في سورة البقرة (الآية 153)، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾. هذه الآية تشير إلى أنه في مواجهة الصعوبات والمشاعر غير المريحة، يجب اللجوء إلى الصبر والصلاة، لأن الله مع الصابرين، وهذه المعية الإلهية هي أفضل علاج لأي وحدة. 4. تجاهل العلامات والبركات: يغرق الإنسان أحيانًا في مشاكله ونقصه بحيث يغفل عن رؤية علامات وجود الله وبركاته التي لا تُحصى. التركيز على ما نفتقر إليه يمكن أن يعزز الشعور بالنقص والوحدة، بينما الشكر على ما لدينا يمكن أن يملأ القلب بالرضا والشعور بالحضور الإلهي. كل نفس، كل نظرة، كل شروق وغروب للشمس، كل قطرة ماء، وكل لقمة طعام، كلها علامات على وجوده اللامتناهي وعطفه. إذا نظرنا حولنا بعين مفتوحة وقلب شاكر، فسنجد أنفسنا غارقين في محيط من اللطف والحضور الإلهي. 5. توقعات غير مناسبة من الدين: قد يتوقع البعض من الدين أن يحل جميع مشاكلهم النفسية والعاطفية بشكل فوري ومعجز، دون الحاجة إلى جهد أو تفكير أو، عند الضرورة، طلب المساعدة من المختصين. بينما يوفر الإيمان إطارًا للسكينة والإرشاد، فإن الحياة الدنيا مصحوبة بتحدياتها ومشاعرها الإنسانية. يساعدنا الإيمان على مواجهة هذه التحديات بأفضل طريقة ممكنة، وليس تجاهلها أو توقع اختفائها. وبالفعل، فإن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) نفسه، على الرغم من قربه الشديد من الله، قد اختبر مشاعر إنسانية مثل الحزن والأسف، مما يدل على أن هذه جزء من طبيعة الإنسان، وأن الإيمان يوفر القوة اللازمة للتعامل معها. في الختام، قد يكون عدم زوال شعور الوحدة تمامًا مع الله علامة على الحاجة إلى تعميق العلاقة، والاهتمام أكثر بالجوانب الاجتماعية للدين، وفهم حكمة الابتلاءات الإلهية، أو إعادة تقييم توقعاتنا من الإيمان. الله قريب دائمًا؛ ومن واجبنا أن نسعى بقلب حاضر وتفكير وشكر وعمل صالح للوصول إلى هذا القرب الإلهي ونجد السكينة الحقيقية في حضرته. كلما كانت هذه العلاقة أكثر صدقًا وعمقًا، كلما حل محل شعور الوحدة شعور بالحضور والأمان والمعية الدائمة مع الرب. تذكروا، حتى في أعمق لحظات العزلة، هو السامع والبصير وأقرب صديق ورفيق لنا.
يروى في گلستان سعدي أن عارفًا زاهدًا اعتزل الناس. فجاءه مريد ذات يوم وقال متحسرًا: «يا أستاذ، إني أطمح كذلك إلى الخلوة والانعزال، ولكن كلما جلست وحدي، ضاق صدري وأحسست بالعجز. كأن الله وحده لا يكفي لإزالة هذا الضيق!» فابتسم العارف وقال: «يا بني، أنت تطلب خلوة الجسد لا خلوة القلب. ما دام قلبك مليئًا بالتعلقات الدنيوية، فلن تكون وحدك مع الله أبدًا، بل ستكون وحدك مع أوهامك. أما من قطع صلته بالدنيا وسلم قلبه للحبيب، فإنه في خلوته يجد مئة مجلس. ذات يوم، ضل مسافر في صحراء قاحلة. أرهقه العطش والتعب. صرخ مستغيثًا معتقدًا أنه لا معين له. فجأة، استعاد وعيه وقال: «أليس هو الذي يرزقني الماء والخبز، وهو الذي ينظم هواء حياتي، أليس معي الآن؟» وما إن تذكر ذلك حتى سكن قلبه، وفي تلك اللحظة وجد ينبوعًا. الوحدة الحقيقية هي أن يغفل قلبك عن ذكره، لا أن يفتقر جسدك للرفقة. ما دام قلبك بذكر الله، فلن تكون وحدك أبدًا؛ فهو دائمًا رفيقك وأنيسك، في زاوية الخلوة وفي قلب المجتمع.» فأخذ المريد من هذا الكلام عظة وفهم أن الوحدة الحقيقية ليست في غياب الخلق بل في الغفلة عن الحق.