لماذا لا يزال الإنسان، رغم التقدم، قلقًا بشأن المستقبل؟

على الرغم من التقدم المادي، يبقى الإنسان قلقًا بشأن المستقبل بسبب طبيعته الجزوعة وتعلقه بالحياة الدنيا الفانية. يكمن الحل في تقوية الإيمان، والتوكل على الله، وإيجاد الطمأنينة بذكر الله، فإن القلوب لا تطمئن إلا بذكره.

إجابة القرآن

لماذا لا يزال الإنسان، رغم التقدم، قلقًا بشأن المستقبل؟

لطالما سعى الإنسان، منذ فجر الخليقة، إلى الأمن والطمأنينة. هذا السعي الدؤوب دفعه إلى اكتشافات واختراعات وتقدم غير مسبوق في مجالات العلوم والتكنولوجيا. نحن اليوم نعيش في عصر المعلومات والاتصالات؛ عصر تتوفر فيه المعرفة والموارد والرفاهية بأكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك، من المثير للدهشة أننا نلاحظ أن القلق بشأن المستقبل لم يتضاءل فحسب، بل في العديد من المجتمعات قد ازداد بشكل ملحوظ. يمكن تتبع جذور هذا القلق العميق والمستمر إلى تعاليم القرآن الكريم وفهم الإنسان لوجوده ومكانته فيه. يتناول القرآن الكريم الطبيعة البشرية بعمق وبصيرة. ففي سورة المعارج، الآية 19، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾، أي "إن الإنسان خلق شديد الحرص والجزع". تُظهر هذه الآية أن الجزع والحرص والقلق جزء من طبيعة الإنسان الأصيلة، ما لم يتم تعديلها بالإيمان والأعمال الصالحة. إن الإنسان بطبيعته يتوق إلى البقاء والأمن والسيطرة على بيئته المحيطة. والتقدم العلمي والتكنولوجي هو في جوهره محاولات لتحقيق هذه السيطرة؛ محاولات للتحكم في الطبيعة، وعلاج الأمراض، وإطالة العمر، وضمان الرفاهية. لكن هذه السيطرة لا تكتمل أبدًا، لأن الإنسان لا يستطيع أن يحيط بالقدر الإلهي والعوامل الخارجة عن إرادته. أحد الأسباب الرئيسية للقلق هو ارتباط الإنسان الشديد بالدنيا ومظاهرها. يذكرنا القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا بالطبيعة الفانية والزائلة للحياة الدنيا. في سورة الحديد، الآية 20، جاء: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾. توضح هذه الآية بجلاء أن كل ما نتعلق به في الدنيا، من ثروة وأولاد ومكانة وجمال، هو زائل وغير مستقر. إن الخوف من فقدان هذه المظاهر الفانية هو مصدر هائل للقلق. فالإنسان يقلق على مستقبله الاقتصادي، وصحة أحبائه، وفقدان وظيفته، والتدهور الجسدي والنفسي، لأن كل هذه الأمور تنتمي إلى العالم الفاني وبقائها غير مضمون. التقدم الطبي يزيد العمر، لكنه لا يزيل الموت؛ التقدم الاقتصادي يجلب الثروة، لكنه لا يقضي على الفقر والتفاوت؛ التقدم التكنولوجي يسهل الاتصالات، لكنه لا يزيل الوحدة والعزلة. يقدم القرآن الحل لهذا القلق في الاتصال بالله تعالى ومفهوم التوكل. ففي سورة الرعد، الآية 28، نقرأ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، أي "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. ألا بذكر الله تطمئن القلوب". تُظهر هذه الآية أن الطمأنينة الحقيقية والقضاء على القلق لا يتحققان إلا في ظل الإيمان وذكر الله. عندما يعلم الإنسان أن كل شيء بيد الله وأنه يريد الخير لعباده، يقل الخوف من المستقبل والأحداث غير المرغوبة. والتوكل على الله لا يعني أن يتوقف الإنسان عن السعي والتخطيط، بل يعني أن يسلم النتيجة إلى الله بعد بذل كل الجهود الممكنة، ويجد الطمأنينة في هذا التسليم. فالتقدم المادي، مهما كان مبهرًا، لا يمكن أن يحل محل الطمأنينة القلبية التي تنبع من الإيمان بالخالق. علاوة على ذلك، فإن الفهم الصحيح للقدر الإلهي يلعب دورًا مهمًا في تقليل القلق. يعلمنا القرآن أن كل حدث في الكون يقع بإذن الله وإرادته. هذا الفهم يحرر الإنسان من العبء الثقيل لمحاولة السيطرة الكاملة على المستقبل. بالطبع، هذا لا يعني الجبرية المطلقة، بل يعني قبول حقيقة أن أجزاء من حياتنا تخضع لعوامل متعالية وحكمة إلهية. هذا القبول، بدلاً من أن يولد شعورًا بالعجز، يمكن أن يكون مصدرًا للراحة، لأن الإنسان يعلم أنه حتى في مواجهة ما لا يرغب فيه، هناك إرادة حكيمة من وراء الستار. في الختام، يمكن القول إن التقدم المادي والتكنولوجي، بينما يمكن أن يوفر الرفاهية والراحة في الحياة، إلا أنه عاجز عن تلبية الاحتياجات الروحية والمعنوية الأعمق للإنسان. وينبع القلق من المستقبل من هذا الفراغ الروحي. فما دام الإنسان يفقد اتصاله بخالق الكون وهدفه الأساسي من خلقه، فإنه سيعاني دائمًا من القلق. الحل النهائي للتغلب على هذا القلق هو العودة إلى الفطرة الإلهية، وتقوية الإيمان، والتوكل على الله، وتقديم القيم الأخروية على القيم الدنيوية. هذا المسار يجلب سلامًا دائمًا وطمأنينة عميقة لا يمكن أن يوفرها أي تقدم مادي.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

في شيراز القديمة، كان يعيش تاجر ثري يملك مالاً وفيراً وثراء لا يُحصى. كل يوم، كان يقضي وقته في القلق بشأن مستقبل تجارته، خوفاً من غرق سفنه أو كساد السوق. كان النوم قد جفاه، وكان يعيش في رعب وقلق دائمين. ذات يوم، رأى في طريقه درويشاً يجلس تحت شجرة بابتسامة مشرقة وقلب هادئ، وهو يغني. سأله التاجر: "يا درويش، لا تملك مالاً، فكيف أنت هادئ وغير مكترث هكذا؟ أنا بكل ثروتي، لا أجد لحظة راحة." ابتسم الدرويش وقال: "يا تاجر، سر طمأنينتي هو أن ما أملكه هو هذه اللحظة. المستقبل بيد الله، وقد وكلت إليه كل ما في وسعي. لا أفرح بما يأتي ولا أحزن على ما يذهب. لا أربط قلبي بالزائلات لأخشى زوالها." أخذ التاجر العبرة من هذا القول، وأدرك أن الراحة تكمن في التحرر من قيود الدنيا والتوكل على الخالق، لا في تكديس المزيد.

الأسئلة ذات الصلة