اضطراب القلب رغم الهدوء الظاهري يدل على الغفلة عن ذكر الله والتعلق بالدنيا. الطمأنينة الحقيقية لا تتحقق إلا بذكر الله والتواصل الصادق معه.
إن الشعور بالاضطراب الداخلي، حتى عندما تبدو الحياة الخارجية هادئة وخالية من الهموم، هو تجربة عميقة وذات مغزى يواجهها الكثير من الناس. تشير هذه الحالة إلى أن السلام الحقيقي يتجاوز الأمور المادية والمظاهر الدنيوية. القرآن الكريم، وهو كتاب الهداية والنور، يوضح بجمال جذور هذا الاضطراب الداخلي ويقدم حلولاً لتحقيق طمأنينة دائمة. في الحقيقة، السلام الحقيقي ينبع من أعماق الروح ومن خلال الاتصال بخالق الكون، وليس مجرد جمع الثروات، أو اكتساب المكانة، أو التمتع بالراحة المادية البحتة. القلب الذي يبدو هادئاً ظاهرياً ولكنه مضطرب داخلياً، يبحث عن شيء يتجاوز ما هو متاح له؛ شيء لا يمكن العثور عليه إلا بالاتصال بالمصدر اللانهائي للسلام، وهو الله تعالى. يكمن الجذر الأساسي لهذا الاضطراب في الغالب في الغفلة عن ذكر الله وعدم الاهتمام الكافي بهدف خلق الإنسان. فالبشر بطبيعتهم يميلون نحو الكمال المطلق وخالقهم. وعندما يتم تجاهل هذه الحاجة الفطرية أو تُملأ بالانشغال بأمور دنيوية تافهة، يشعر القلب بالفراغ والقلق، حتى لو كان في قمة الراحة المادية. يقول القرآن الكريم في سورة الرعد، الآية 28: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"، أي "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب". هذه الآية تصرح بأن المصدر الرئيسي للطمأنينة هو ذكر الله. فعندما يغفل القلب عن ذكر الله، يصاب بالقلق والاضطراب، لأنه بدلاً من الاعتماد على قوة الله الأبدية، يتعلق بأمور الدنيا الفانية. وهذا التعلق بالدنيا بحد ذاته هو مصدر للعديد من الهموم والمخاوف، لأن كل شيء في الدنيا زائل، والإنسان يخشى فناءه. من العوامل الأخرى للاضطراب الداخلي يمكن الإشارة إلى التركيز المفرط على الماديات ونسيان الآخرة. في سورة الحديد، الآية 20، يصف الله تعالى حقيقة الحياة الدنيا: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ". هذه الآية تبين أنه إذا كان كل هم الإنسان الدنيا ونسي الآخرة، فإن قلبه سيسعى دائماً وراء شيء لا يمنحه السلام الحقيقي أبداً، وسيظل يدور في حلقة من المنافسة، والخوف من الخسارة، والحسرة. تلعب الذنوب والمعاصي أيضاً دوراً هاماً في اضطراب القلب. فكل ذنب يترك بقعة سوداء على القلب ويقلل من نوره. وتكرار الذنوب يجعل القلب قاسياً ومظلماً، ويقطع صلته بمصدر السلام. التوبة والعودة إلى الله خطوة أساسية لتطهير القلب واستعادة الطمأنينة. كما أن عدم الرضا بالقضاء الإلهي وعدم التوكل على الله من أسباب الاضطراب الداخلي الأخرى. فعندما يريد الإنسان أن يتحكم بكل شيء بنفسه وينفجر غضباً عند كل صعوبة أو مشكلة، بدلاً من تسليم الأمور لله والثقة في حكمته، فمن الطبيعي أن يصاب بالقلق والاضطراب. يقول القرآن الكريم في سورة البقرة، الآية 153: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"، أي "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين". الصبر والصلاة هما أداتان قويتان لمواجهة المشاكل وإيجاد السلام الداخلي. الصبر يعني الثبات في مواجهة المشاكل وعدم التسرع في حلها، والصلاة تعني الاتصال المباشر بالله واللجوء إليه. حل هذا الاضطراب الداخلي يكمن في العودة إلى الفطرة الإلهية، وتقوية الإيمان، وزيادة ذكر الله في الحياة اليومية. ويشمل ذلك قراءة القرآن، والأذكار، والصلاة المنتظمة، والدعاء والمناجاة، والتفكر في آيات الله، وخدمة الخلق. فكلما تعمق اتصال الإنسان بالله، زاد قلبه طمأنينة، لأن مصدر السلام لا ينضب أبداً. في النهاية، يجب أن ندرك أن الحياة الدنيا محل اختبار، والاضطرابات الداخلية يمكن أن تكون وسيلة للاستيقاظ والعودة إلى الله. فمن خلال معرفة جذور هذا الاضطراب والعمل بأوامر الله، يمكن تحقيق السلام الحقيقي والدائم، الذي لا يستقر في القلب بتغير الظروف الخارجية، بل بنور الإيمان والذكر الإلهي. هذا السلام كنز ثمين لا يمكن لأي ثروة أو قوة أن تشتريه، ولا يمكن تحقيقه إلا بالتوكل والاتصال بالله. كما أن تلاوة القرآن وتدبر معانيه لهما دور كبير في طمأنينة القلب، لأن كلام الله نور يضيء القلوب. والمواظبة على العبادات القلبية وحضور القلب في الأعمال تعزز هذا السلام. تهذيب النفس والتخلص من التعلقات الدنيوية وتوجيه الروح نحو الكمال، كلها مسارات تؤدي إلى السكينة الأبدية. في هذا المسار، حتى في مواجهة التحديات والمصائب، القلب الذي اطمأن بذكر الله لا يتزعزع.
في گلستان سعدي، يُروى أن ملكاً كان يتمتع بعظمة وجلال كبيرين، ولكن قلبه كان مضطرباً. فكل ليلة، رغم حاشيته وخزائنه الملأى، لم يكن ينام، وكان يعيش في قلق بسبب شؤون المملكة والأعداء الخفيين. في نفس المدينة، كان هناك درويش يملك خِرقة واحدة فقط ويعيش في زاوية مسجد. كان يبقى مستيقظاً حتى الفجر، ليس من القلق، بل من شوق المناجاة لربه. ذات يوم، رأى الملك الدرويش وسأله عن حاله. فأجاب الدرويش: "أيها الملك، راحتي في استغنائي، واضطرابك في كثرة ممتلكاتك. القلب الذي يذكر الله لا يحتاج إلى راحة ظاهرية، لأنه هو نفسه مصدر الطمأنينة." أخذ الملك العبرة من كلامه وأدرك أن السلام الحقيقي يكمن في الاستغناء عن الدنيا وحضور القلب مع الله.