ممارسة الشكر في القرآن الكريم أمر إلهي يؤدي إلى زيادة النعم، تقوية الإيمان، وتحقيق الطمأنينة الداخلية. الجحود، على النقيض، يجلب العذاب الإلهي؛ لذا، شكر النعم هو مفتاح السعادة ووفرة البركات.
لماذا يجب أن أمارس الشكر؟ هذا سؤال عميق تكمن إجابته في تعاليم القرآن الكريم. الشكر ليس مجرد واجب أخلاقي أو شعور لطيف، بل هو ركن أساسي في علاقة الإنسان بخالقه، وأحد أقوى الأدوات لتحقيق السلام والرضا ووفرة النعم في الحياة. يؤكد القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا على أهمية الشكر، ولا يكتفي بمدحه فحسب، بل يقدمه كأمر إلهي وطريق نحو السعادة الحقيقية والنجاح الدائم. في الواقع، الشكر عمل شامل له جوانب فردية وداخلية، وكذلك جوانب اجتماعية وتفاعلية. هذا العمل لا يحسن الحالة الروحية والنفسية للفرد فحسب، بل له أيضًا آثار إيجابية على من حوله، مما يؤدي إلى رضا الله وزيادة البركات. أساس الشكر: أمر إلهي ووعد بالزيادة السبب الأول والأهم لممارسة الشكر هو أن الله تعالى نفسه قد أمر به. في سورة البقرة، الآية 152، يقول الله سبحانه وتعالى: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ». هذه الآية توضح بجلاء أن الشكر ليس مجرد تذكر للنعم، بل هو جزء لا يتجزأ من ذكر الله والحفاظ على الصلة به. الكفر بالنعمة، على النقيض من الشكر، يعني تجاهل أو إنكار النعم الإلهية، ويعتبر من الذنوب الكبيرة التي قد تؤدي إلى زوال النعم. إن الله تعالى، وهو المصدر الأساسي لجميع النعم، يريد من عباده أن يكونوا شاكرين وأن يظهروا هذا التقدير في أفعالهم وأقوالهم. أما وعد الزيادة في النعم، فهو من أروع مكافآت الشكر. يقول الله تعالى في سورة إبراهيم، الآية 7: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ». هذه الآية تبين بوضوح أن الشكر لا يضمن الحفاظ على النعم الموجودة فحسب، بل يؤدي أيضًا إلى زيادتها. هذه الزيادة يمكن أن تكون في الأبعاد المادية (مثل الرزق والصحة والهدوء، والنجاح الدنيوي) وكذلك في الأبعاد الروحية (مثل زيادة الإيمان والحكمة والبصيرة، والهداية الإلهية). هذا الوعد الإلهي هو قانون كوني يسري دائمًا ولا يقتصر على زمان أو مكان محدد. كلما كنا أكثر شكرًا، كلما فُتحت لنا أبواب أكثر من رحمة الله وفضله، وتصبح حياتنا مليئة بالبركات. معرفة النعم ودفع الغفلة الإنسان بطبيعته يميل إلى الاعتياد السريع على ما يمتلكه، وغالبًا ما يعتبره أمرًا مفروغًا منه. هذه العادة يمكن أن تؤدي إلى الغفلة عن النعم التي لا تعد ولا تحصى من حوله. الشكر هو ممارسة واعية للخروج من هذه الغفلة. عندما نبدأ في ممارسة الشكر، تتغير نظرتنا للحياة. فبدلاً من التركيز على ما ينقصنا أو عيوبنا، تنفتح أعيننا على النعم التي لا تعد ولا تحصى، والتي ربما لم ندرك وجودها من قبل. نعم مثل الصحة، القدرة على الرؤية والسمع، التنفس، الماء الصالح للشرب، سقف فوق رؤوسنا، العائلة، الأصدقاء، وحتى وجودنا بحد ذاته وعمل أعضاء جسمنا بشكل سليم. في سورة النحل، الآية 78، يقول الله تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ». هذه الآية تجعل الشكر هو الهدف من منح هذه القدرات. الشكر يخرجنا من حالة «الجهل» وعدم الانتباه إلى «المعرفة» و«التقدير»، ويجعلنا نستمتع بكل لحظة وكل ما لدينا، بدلاً من الشكوى من الحياة. تقوية الإيمان والتقرب إلى الله الشكر يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالإيمان والتوحيد. فالشخص الشاكر يؤمن بقلبه أن جميع النعم تأتي من الله، ولا حول ولا قوة إلا به. هذا الإيمان يعمق جذور الإيمان في كيان الإنسان ويدفعه نحو المزيد من التوكل والاستسلام لإرادة الله. في كل مرة نشكر نعمة، فإننا في الواقع نؤكد عظمة الله وكرمه ورحمته. هذا الاعتراف يؤدي إلى قرب أكبر من الله، لأن الله يحب عباده الشاكرين ويخصهم بعناية خاصة. في سورة لقمان، الآية 12، نقرأ: «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرْ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ». هذه الآية توضح أن الشكر لا يفيد الله، لأنه غني وحميد ولا يحتاج إلى شكرنا؛ بل نفعه يعود بالكامل على الشاكر نفسه. هذا النفع يتجلى في الطمأنينة النفسية، والرضا القلبي، وزيادة البركات المادية والمعنوية، ويساهم بشكل كبير في النمو الروحي للإنسان. الطمأنينة النفسية والرضا القلبي من أعظم إنجازات ممارسة الشكر هو تحقيق السلام الداخلي والرضا عن الحياة. في عالم اليوم الصاخب، حيث يسعى الناس باستمرار لتحقيق المزيد ويقارنون أنفسهم بالآخرين، يوفر الشكر مرساة آمنة. عندما نكون شاكرين، فإننا نقلل من الحسرة والحسد والقلق. فبدلاً من الأسف على ما لا نملكه، نركز على ما لدينا ونستمتع به. هذا التغيير في المنظور يزيد بشكل كبير من مستوى الرضا عن الحياة. يمكن للفرد الشاكر، حتى في الظروف الصعبة والأزمات، أن يجد جوانب إيجابية ويحافظ على أمله، لأنه يعلم أن الله قد قدر له خيرًا في كل حالة، وأن مع العسر يسرًا. هذا المنظور الإيجابي يساعده على التعامل بشكل أفضل مع التحديات ويشعر بسعادة أكبر. تجنب العذاب الإلهي وعلامة على العبودية يحذر القرآن الكريم بشدة من كفر النعمة وإنكارها، ويعتبر ذلك سببًا للعذاب والشقاء. فكما ذكر في الآية 7 من سورة إبراهيم: «وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ». عدم الشكر لا يؤدي فقط إلى زوال النعم الموجودة، بل يمكن أن يؤدي أيضًا إلى المصائب والمشاكل، ويجعل حياة الفرد صعبة. الشكر، في المقابل، هو علامة على العبودية الصادقة والطاعة للرب. العبد الذي يرى النعم من الله ويشكرها، يكون قد وصل بالفعل إلى مقام التسليم والرضا، وهذا بحد ذاته مصدر سعادة أبدية، ويضعه على الصراط المستقيم الإلهي. هذا العمل يخلق تمييزًا واضحًا بين المؤمنين الحقيقيين والكافرين الجاحدين، ويوضح أي الفريقين قد اختار المسار الصحيح. في الختام، الشكر هو خيار واعٍ. خيار يحول الحياة، وينير القلوب، ويمهد الطريق لدخول البركات الإلهية. ممارسة الشكر لا تتطلب ظروفًا خاصة؛ يمكن البدء بها في أي لحظة، وبشكر أصغر النعم: من شروق الشمس والهواء النقي إلى الصحة والقدرات الفردية، وحتى وجود الفرص والتحديات التي تمنحنا القوة للنمو. مع كل شكر، يخطو الإنسان خطوة نحو الله ويصعد سلم الكمال. لذا، الشكر ليس مجرد توصية، بل هو ضرورة لحياة ذات معنى، هادئة، ومليئة ببركات الله.
يقال إنه في الأزمان الغابرة، عاش رجل زاهد وفقير في زاوية منعزلة، كان يشكر الله على كل ما يملك بلا أي تذمر. كل صباح، حين تشرق الشمس على وجهه، كان يحمد الله على عينيّه البصيرتين وقلبه الشاكر. من ناحية أخرى، كان هناك ملك في قصره، بكل ثروته وقوته، دائمًا حزينًا وغير راضٍ، ويشتكي من أدنى النواقص. ذات يوم، مر الملك من هناك ورأى الرجل الزاهد، سعيدًا ومبتسمًا على الرغم من فقره. سأله الملك بدهشة: «يا رجل، كيف لي أن أراك سعيدًا وراضيًا بهذا الحال البائس واليد الخالية؟» فأجاب الزاهد بابتسامة دافئة: «يا أيها الملك، أنا شاكر لأن عبء الثروة والمسؤولية الثقيل ليس على كاهلي، وقلبي حر من قيود الدنيا. هاتان العينان البصيرتان، وهذه الأذن السامعة، وهاتان اليدان والقدمان القادرتان، وهذا النفس الذي يأتي ويذهب بلا منة، هو كنز لا يمتلكه أي ملك. من يعرف هذه النعم ويشكرها، لن يكون فقيرًا أبدًا.» تعلم الملك درسًا من كلامه وأدرك أن شكر النعم هو مفتاح انفتاح القلوب ومصدر للسلام، وليس الوفرة وحدها.