من منظور القرآن، النجاح الحقيقي ليس في تراكم العمل والثروة، بل في تحقيق التقوى والسلام الداخلي والأعمال الصالحة ورضا الله. المال والأولاد زينة الحياة الدنيا واختبار إلهي، يجب استخدامها في سبيل الله ولنيل السعادة الأخروية، لا أن تكون الهدف الأسمى للحياة.
إن فهم مفهوم 'النجاح الحقيقي' من منظور القرآن الكريم يختلف اختلافًا جوهريًا عن التعريفات الدنيوية الشائعة التي غالبًا ما تقوم على تجميع الثروة والشهرة. فالقرآن، وإن كان يشجع على كسب الرزق الحلال والسعي في الحياة، ويعتبر المال والأولاد زينة الحياة الدنيا، إلا أنه يحذر بشدة من أن تصبح هذه الأمور الغاية النهائية للإنسان، وأن تصرفه عن الهدف الأساسي من خلقه وهو عبادة الله وتحقيق السعادة الأخروية. في المنظور القرآني، النجاح الحقيقي يكمن في السلام الداخلي، والاتصال العميق بخالق الكون، وأداء الأعمال الصالحة، ونيل الرضا الإلهي، وليس مجرد التراكم المادي. يصرح القرآن الكريم بأن المال والأولاد فتنة واختبار للإنسان. ففي سورة التغابن، الآية 15، يقول الله تعالى: "إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ"؛ أي "إن أموالكم وأولادكم ما هي إلا ابتلاء لكم، والله عنده أجر عظيم". هذه الآية تبين أن الثروة والأبناء يمكن أن يكونا وسيلة لتقييم إيمان الإنسان وأخلاقه؛ فهل الإنسان عند امتلاكهما يشكر الله ويؤدي حقوقه، أم يتكبر وينسى ويضيع حقوق الآخرين؟ إذا كان كثرة العمل والمال تصرف الإنسان عن ذكر الله، وعن أداء الواجبات، وعن خدمة الخلق، وعن تهذيب روحه، فإنها ليست علامة على النجاح، بل يمكن أن تكون عامل سقوط وخسران. يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا أن الحياة الدنيا زائلة وفانية، وأن الذي يبقى هو الأعمال الصالحة والأجر الأخروي. في سورة الكهف، الآية 46، نقرأ: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا"؛ "المال والأبناء زينة الحياة الدنيا، والأعمال الصالحة الباقية أفضل ثوابًا عند ربك وأفضل أملًا". هذه الآية توضح بجلاء أن القيمة الحقيقية تكمن في "الباقيات الصالحات" التي تشمل كل عمل صالح يُفعل لوجه الله، ويترك أثرًا باقيًا في الدنيا والآخرة. وتشمل هذه الأعمال العلم النافع، والصدقة الجارية، وتربية الأبناء الصالحين، وكل عمل خير يقدمه الإنسان للمجتمع. وتتناول سورة التكاثر هذا الموضوع بنبرة تحذيرية. يقول الله تعالى: "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ" (سورة التكاثر، الآية 1 و 2)؛ "شغلكم التفاخر بكثرة الأموال والأولاد، حتى ذهبتم إلى المقابر". هذه الآيات تعبر عن مرض روحي واجتماعي يشغل الإنسان بجمع المزيد والمزيد من المال والثروة، دون الالتفات إلى الغاية والوجهة النهائية، حتى يسلبه فرصة التفكر في الموت والحياة بعده. هذا النوع من الحياة، وإن بدا ظاهريًا براقًا وناجحًا، فإنه من منظور القرآن، مصداق واضح للخسارة، لأنه يبعد الفرد عن حقيقته الوجودية ويقوده إلى الفراغ. على النقيض من ذلك، يقدم القرآن الكريم "الفلاح" كنجاح حقيقي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتقوى والإيمان والعمل الصالح. "الفلاح" يعني الفوز والظفر والنجاح الذي يجلب السكينة والبركة في الدنيا، ويضمن الجنة ورضا الله في الآخرة. في الآيات الأولى من سورة البقرة، بعد وصف المتقين، يقول تعالى: "أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (البقرة، الآية 5)؛ "أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم الفائزون". هذا الفلاح لا يقاس بالمال، بل بالتقوى واتباع الإرشادات الإلهية. من أهم دروس القرآن فيما يتعلق بالنجاح، مفهوم "الاعتدال والتوازن". ففي سورة القصص، الآية 77، نقرأ: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"؛ "اطلب بما آتاك الله من مال وجاه وثواب الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا؛ وأحسن إلى الناس كما أحسن الله إليك؛ ولا تسع إلى الإفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين". هذه الآية تقدم ميثاقًا شاملاً للحياة المتوازنة. فالعمل والسعي من أجل الرزق والاستفادة من نعم الدنيا مسموح بل ومطلوب، ولكن بشرط ألا يُنسى الهدف الأساسي وهو الآخرة، وألا تؤدي هذه الاستفادة إلى الفساد والطغيان. الإنسان الناجح هو من يسعى لدُنياه ويدخر لآخرته، ويقيم توازنًا بين الاثنين. وبناءً عليه، فإن كثرة العمل والمال بحد ذاتها ليست علامة على النجاح الحقيقي وليست دليلًا على الفشل. إنها أدوات يمكن استخدامها في طريق النجاح الحقيقي (أي الوصول إلى قرب الله والسعادة الأخروية)، أو على العكس، قد تتحول إلى عوائق تبعد الإنسان عن هذا الطريق. النجاح الحقيقي من منظور القرآن يكمن في الاستخدام الصحيح لهذه الأدوات لأهداف أسمى، وفي العيش بتقوى وعفة، وفي خدمة الخلق، وفي الشكر على نعم الله، وفي سلام القلب والرضا بالقدر الإلهي. فالذي قلبه مليء بالقناعة وذكر الله، يشعر بالنجاح والسعادة حتى بأقل الإمكانيات، بينما الفرد الذي أمضى حياته كلها في جمع المال والمقام، قد يشعر بالفراغ والقلق في أوج ثروته وشهرته. هذا هو الفرق الأساسي الذي يعلمنا إياه القرآن.
يُحكى أن ملكًا ثريًا مشغولًا، في أوج قوته ورفاهيته، طلب ذات يوم من خدمه أن يحضروا إليه رجلًا فقيرًا ولكنه هادئ وراضٍ. دخل الرجل الفقير، الذي اعتاد القناعة، في هدوء تام. سأله الملك: "كيف لك أن تكون بهذا الهدوء والسعادة، مع كل هذا النقص والفقر، بينما أنا، مع كل هذه المملكة والثروة، لا أجد لحظة راحة وأنا دائمًا قلق بشأن خسارة المزيد أو الحصول على المزيد؟" ابتسم الرجل الفقير وقال: "يا أيها الملك! أنت أسير لممتلكاتك، وكلما زادت ممتلكاتك، زادت أعباء همومك. أما أنا فحُر، لأن قلبي قانع بما أملك، وعيني تتطلع إلى كرم الله. سلامي ينبع من معرفتي بأن كل شيء زائل، وأن النجاح الحقيقي يكمن في سكينة الروح والتقرب من الخالق، وليس في عد الذهب والفضة. أنت تظن أنك وصلت إلى القمة بمال كثير، بينما أنا وصلت إلى القمة بتحرري من قيوده." عند سماع هذه الكلمات الحكيمة، توقف الملك لحظة وتأمل في المعنى الحقيقي للنجاح.