هل الأمل المفرط يمكن أن يؤدي إلى الغفلة؟

الأمل الحقيقي في الإسلام مقرون بالعمل الصالح. لكن الأمل المفرط الذي يؤدي إلى الغفلة عن الواجبات والشعور الزائف بالأمان من رحمة الله مذموم في القرآن، وقد يقود الإنسان إلى الهلاك الروحي.

إجابة القرآن

هل الأمل المفرط يمكن أن يؤدي إلى الغفلة؟

الأمل، بمعنى الرجاء في رحمة الله وفضله، هو أحد أجمل وأهم أركان الإيمان في الإسلام. هذا الشعور هو نور يضيء قلب المؤمن في ظلمات اليأس والقنوط، ويهديه نحو التوبة، والإصلاح الذاتي، والعودة إلى طريق الحق. يدعو الله تعالى في القرآن الكريم المؤمنين مراراً وتكراراً لعدم اليأس من رحمته اللامحدودة، حتى لأولئك الذين أسرفوا على أنفسهم بالذنوب. هذا الأمل في العون والمغفرة الإلهية ليس مجرد أمر جائز، بل يُعتبر فضيلة عظيمة وقوة دافعة للجهد المتواصل والتوبة والعودة والاستقامة، والتحرك المستمر نحو الأعمال الصالحة والنمو الروحي. ولكن في هذا السياق، يبرز سؤال عميق: هل هذا الأمل، إذا تجاوز حد الاعتدال أو أسيء فهمه بسطحية، يمكن أن يؤدي إلى “الغفلة”؟ إن إجابة القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية الشاملة على هذا السؤال تتطلب تأملاً دقيقاً يتجاوز مجرد الإجابة بـ “نعم” أو “لا” بسيطة. في العقيدة الإسلامية، لا ينفصل الأمل الحقيقي (الرجاء الصادق) أبداً عن العمل الصالح، والسعي الدؤوب في سبيل الله، والمحافظة الدائمة على التقوى (الوعي بالله). فالأمل الذي تطرحه الآيات القرآنية النورانية هو دافع قوي للثبات على طريق الحق، وتحمل مشقات الحياة وصعوباتها بصبر، والتوبة الخالصة من الأخطاء والذنوب. عندما يأمل المؤمن في رحمة الله الواسعة واللامتناهية، فإنه يتحرر من فخ اليأس الذي هو بحد ذاته ذنب كبير ومدمر. ويرى دائماً باباً مفتوحاً للعودة، وإصلاح الذات، وتدارك ما فاته. هذا الأمل يدفعه إلى الأمام لكي لا يتوقف أبداً عن السعي، وليتحرك دائماً نحو الكمال الإنساني. تؤكد الآية 53 من سورة الزمر على هذه النقطة بشكل فريد: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (قل: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله؛ إن الله يغفر الذنوب جميعاً؛ إنه هو الغفور الرحيم). تقدم هذه الآية صورة لرحمة الله اللامحدودة التي تحيي الأمل في قلب كل إنسان، حتى أولئك الذين بلغوا ذروة المعصية، وتدعوهم بأذرع مفتوحة نحو التوبة والعودة. ولكن التحدي الرئيسي والخطير يبدأ عندما يُفهم هذا المفهوم السامي للأمل بطريقة مفرطة، دون مراعاة المسؤوليات الفردية والالتزامات الإلهية. فالأمل المفرط أو الذي أسيء تفسيره، يمكن أن يتحول إلى نوع من "الغرور" (الخداع الذاتي) أو "الأمان الزائف" الذي تكون نتيجته النهائية هي "الغفلة". الغفلة، في الرؤية القرآنية، تعني التجاهل المتعمد، النسيان الواعي، أو اللامبالاة وعدم الانتباه تجاه الحقائق الأساسية للوجود والمسؤوليات الإنسانية الخطيرة. فمن يقع في الغفلة، كأنما سقط حجاب على بصيرة قلبه، فيظل جاهلاً تماماً بالحقائق الأساسية للحياة، مثل الغاية السامية من الخلق، الوجود الدائم لله ورقابته، يَقِين الحساب في يوم القيامة، والطبيعة العابرة والفانية لهذه الدنيا. إذا تخلى الإنسان، بسبب اعتماده على أمل واهم وغير مستند على أساس، في رحمة الله ومغفرته، عن أداء واجباته وتكاليفه الدينية، أو ارتكب المحرمات والذنوب، أو أجل توبته وتصحيح أخطائه إلى وقت غير معلوم في المستقبل، فإنه قد أوقع نفسه في هاوية الغفلة العميقة. قد يقول هذا الشخص لنفسه، بعقلية مخدوعة: "الله أرحم من أن يعذبني وسوف يغفر دائماً، فلماذا أجهد نفسي الآن أو أمتنع عن ذنوبي؟ سأتوب متى شئت أو إذا سنحت الفرصة." هذا النمط من التفكير هو مثال صارخ ومؤلم للأمل المفرط والزائف الذي لا يؤدي إلى عمل صالح فحسب، بل يؤدي بشدة إلى الغفلة والتسيب الأخلاقي. والله تعالى في القرآن الكريم، بالإضافة إلى تشجيعه الشديد على الأمل في رحمته، يحذر بشدة وبشكل متكرر الغافلين وأولئك الذين انخدعوا ببريق الدنيا، منبهاً إلى عواقب هذه الغفلة. الآية 179 من سورة الأعراف تصور بوضوح حال الغافلين: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" (ولقد خلقنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس؛ لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها؛ أولئك كالأنعام بل هم أضل؛ أولئك هم الغافلون). هذه الآية تشير بوضوح إلى أن الغفلة ليست مجرد لامبالاة، بل هي نتيجة لتجاهل وتعطيل الأدوات الحيوية للفهم والإدراك التي وهبها الله للإنسان، مما يؤدي إلى السقوط إلى مستوى أدنى من الحيوانات وعواقب وخيمة جداً في الآخرة. أحد الجوانب الأساسية والخطيرة للغاية للغفلة الناتجة عن الأمل المفرط هو الثقة الزائدة وغير المبررة في الحياة الدنيا الزائلة، وبالتالي، النسيان التام والتدريجي للآخرة. ينغمس بعض الأفراد بشكل كامل في الأماني والطموحات الدنيوية، والأمل في طول عمر لا ينتهي، والملذات المادية العابرة، بحيث ينسون تماماً ويغفلون عن وجود يوم الحساب، وحتمية الموت، والعالم العظيم بعد ذلك. هذه الثقة الزائفة والمبالغ فيها في الدنيا هي السبب الرئيسي للغفلة، والتي ورد ذكرها في الآية 7 من سورة يونس بشكل تحذيري: "إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ" (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، والذين هم عن آياتنا غافلون...). تكشف هذه الآية بوضوح عن العلاقة الوثيقة بين الرضا المفرط واللامحدود بالحياة الدنيا، وعدم الأمل الحقيقي في لقاء الله (والذي يشمل قبول المساءلة والثواب والعقاب)، وفي النهاية، الغفلة المطلقة عن الآيات والعلامات الإلهية. في هذا السياق، لا ينبغي إغفال الدور المخادع للشيطان. فالشيطان، العدو اللدود والقسم الأبدي للإنسان، يستخدم بذكاء خاص إلقاء الآمال الزائفة والمغرية لتشجيع الناس على تأجيل التوبة، وتأخير فعل الخير، والانشغال بملذات الدنيا الزائلة. تبريره الدائم هو: "الوقت طويل؛ ستكون هناك فرصة للتوبة دائماً،" أو "الله رحيم جداً وسوف يغفر بالتأكيد، فلماذا تعذب نفسك الآن؟" يُصوّر هذا الخداع الشيطاني الماهر بشكل جيد في الآية 33 من سورة لقمان: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ" (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً؛ إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور). هنا تشير كلمة "الغرور" (المخادع الكبير) إلى الشيطان، وإحدى أقوى وأخطر أساليبه في الخداع هي خلق الغرور والثقة الزائفة بلا أساس في رحمة الله غير المشروطة دون أي عمل أو توبة أو جهد. لذلك، فإن الحل الإسلامي السامي والحكيم لخلاص الإنسان ليس الاستسلام لليأس المطلق ولا الغرق في الأمل المفرط وغير المؤسس، بل هو "التوازن الدقيق والمرهف بين الخوف (من الله) والرجاء (في الله)". المؤمن الحقيقي هو الذي يعيش دائماً في حياته بين هاتين الحالتين الروحيتين: فمن ناحية، يأمل في رحمة الله وفضله اللانهائي، ومن ناحية أخرى، يخشى عدله وعقابه، ويرى نفسه مسؤولاً. هذا التوازن الدقيق يحفظه دائماً على طريق الاعتدال، واليقظة، والتقوى. فالأمل في رحمة الله يتيح له أن يتوب بسرعة بعد الزلل أو الذنب، وينقذه من اليأس، ويعيده إلى الله؛ والخوف من عدل الله ومحاسبته يدفعه إلى اجتناب الذنوب، وألا يتهاون في أداء واجباته وتكاليفه، وأن يكون دائماً واعياً بأفعاله وأقواله. هذا التوازن الحكيم يضمن يقظة القلب وحياته، وهو ترياق قوي لمنع الغفلة والهلاك. في الختام، يمكن التأكيد على أن الأمل الزائد بحد ذاته ليس سيئاً، بل هو ركن من أركان الإيمان؛ ولكن النوع من الأمل الذي يصاحبه تساهل في العمل، وتجاهل للتحذيرات، ولامبالاة بالمسؤوليات الشرعية والأخلاقية، هو خطير جداً ومدمر. فالأمل المشروع والصحيح هو الذي يدفع الإنسان نحو المزيد من الأعمال الصالحة، والتوبة الحقيقية والدائمة، والتذكر المستمر للموت والحياة الأبدية في الآخرة. إذا كان الأمل، بدلاً من أن يكون محفزاً للعمل، يؤدي إلى راحة وسكون بلا عمل، وكسل واختلاق الأعذار لعدم الالتزام بأوامر الله، فإنه لم يعد أملاً حقيقياً؛ بل هو نوع من الخداع الذاتي، والغرور الزائف، والوهم، الذي لن يسفر إلا عن الغفلة عن الحقائق وعواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة. ومن ثم، يجب على كل مؤمن أن يكون دائماً في كل لحظات حياته يقظاً، وحذراً، ومسؤولاً، وأن يعيش بأمل في رحمة الله الواسعة، ولكن لا يغفل أبداً عن واجباته ومسؤولياته، ويعلم أن كل عمل قام به، سواء كان حسناً أو سيئاً، سيُعرض كاملاً أمام ربه وسيُحاسب عليه. هذه اليقظة الدائمة والشعور العميق بالمسؤولية هما جوهر الإيمان الحقيقي والترياق الأساسي لاستئصال الغفلة من روح الإنسان وكيانه.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُروى أنه في زمن مجاعة شديدة، كان هناك رجل محسن في مدينة يملك قمحاً وفيراً، وكان الناس يطلبون مساعدته. ذات يوم، ظهر بين المحتاجين درويش اعتاد لسنوات على الجلوس والأمل في الرزق دون عناء. فقال له الرجل المحسن: "يا درويش، ما بالك تجلس دائماً وتطلب القمح؟ اذهب واعمل لتكسب رزقاً حلالاً." فأجاب الدرويش بظنٍّ كاذب وأمل واهم: "يا أيها الرجل العظيم، ألم تسمع أن الله هو الرزاق، وهو يرزق كل مخلوق؟ أنا أضع أملي في وعده!" فابتسم الرجل المحسن وقال: "بلى، الله هو الرزاق، لكنه يرزق من ينهض ويسعى، لا من يجلس بأمل كاذب ويتكاسل عن العمل والجهد. الأمل في رحمة الله دون فعل لا يقود إلا إلى الغفلة." فانتبه الدرويش من كلام الرجل المحسن الحكيم، وتخلى عن كسله بعد ذلك، وسعى لرزقه بأمل حقيقي وجهد دؤوب.

الأسئلة ذات الصلة