ترك المستحبات ليس خطيئة، لكنه قد يعيق النمو الروحي وتقوية الإيمان، وقد يشير بمرور الوقت إلى ركود أو فتور في العقيدة. أداؤها يعزز التقرب إلى الله ويزيد من قوة الإيمان.
في نسيج التعاليم الإسلامية الغني، تنقسم الأعمال الدينية إلى أنواع مختلفة، لكل منها أهميته ومكانته الخاصة. من بين هذه، الأعمال 'الواجبة' أو 'الفرائض' هي تلك التي يجب على كل مسلم أداؤها، ويعتبر تركها ذنبًا، مثل الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان. في المقابل، تشير 'المستحبات' أو 'النوافل' إلى الأعمال التي يجلب أداؤها ثوابًا وأجرًا، لكن تركها لا يترتب عليه إثم. وتشمل الأمثلة صلوات النوافل، والصيام التطوعي، والصدقات الخفية، أو الذكر وتلاوة القرآن أكثر مما هو واجب. السؤال المطروح هو: هل يمكن أن يؤدي ترك هذه الأعمال المستحبة إلى ضعف الإيمان؟ يتطلب الإجابة على هذا السؤال فهمًا عميقًا لطبيعة الإيمان ودور الأعمال في تقويته. الإيمان في المنظور الإسلامي ليس حقيقة ثابتة أو جامدة؛ بل هو حالة ديناميكية وحية قابلة للزيادة والنقصان. وقد أكد القرآن الكريم مرارًا على هذه الديناميكية للإيمان. ففي سورة الأنفال، الآية 2، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾؛ 'إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون.' هذه الآية توضح بجلاء أن الإيمان يزيد بذكر الله وتلاوة آياته. ولذلك، فإن أي عمل يساعد في ذكر الله ويقرب العبد إليه يحمل في طياته إمكانية تقوية الإيمان. إن الأعمال المستحبة هي في جوهرها فرص ذهبية لهذا النمو وازدهار الإيمان. فهي لا تعوض النواقص المحتملة في أداء الواجبات فحسب، بل تُعتبر جسرًا للوصول إلى درجات روحية أعلى وتقرب أكبر إلى الله. الهدف الأساسي من المستحبات هو تزكية النفس، وتقوية العلاقة القلبية مع الخالق، وبلوغ مقام 'الإحسان'. مقام الإحسان هو تلك الحالة التي يعبد فيها الإنسان الله كأنه يراه، وإن لم يكن يراه فإنه يعلم أن الله يراه. هذا العمق في العلاقة والمراقبة لا يتحقق إلا بالاستمرار في العبادات والأعمال الصالحة (سواء الواجبة أو المستحبة). إن ترك المستحبات، بحد ذاته، لا يجلب إثمًا ولا يخرج الفرد من دائرة الإيمان. ولكن ما يحدث هو فقدان فرص لا تحصى لتغذية الروح وتقوية الأسس الروحية. الإيمان مثل الشجرة التي تنمو وتثمر بالري المستمر والتسميد المناسب. فالواجبات بمثابة الري الأساسي الذي يبقي الشجرة حية، أما المستحبات فهي بمثابة السماد والتقليم والعناية الإضافية التي تجعل الشجرة أقوى وأكثر ثمرًا وأجمل. إذا اكتفى المرء بالحد الأدنى من الري، فقد لا تموت الشجرة، لكنها لن تصل أبدًا إلى أقصى نموها وإنتاجها. عندما يهمل الفرد باستمرار الأعمال المستحبة بسبب اللامبالاة أو عدم الاكتراث، قد يشير ذلك إلى نوع من الفتور أو الركود الروحي. هذا التخلي التدريجي يمكن أن يقلل ببطء من الحماس الأولي للإيمان، ويحرم الروح من النضارة والحيوية. شيئًا فشيئًا، قد يقل اطمئنان القلب بذكر الله، وقد تتلاشى الصلة بمصدر الوجود. ففي سورة الرعد، الآية 28، نقرأ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾؛ 'الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله. ألا بذكر الله تطمئن القلوب.' إذا غفل الإنسان عن أداء المستحبات التي تقوي ذكر الله فيه، فقد يقل هذا السلام والطمأنينة القلبية، وبالتالي يضعف إيمانه. علاوة على ذلك، تلعب المستحبات دورًا حاسمًا في بناء الانضباط الروحي وتقوية الإرادة. فالشخص الذي يقوم لصلاة الليل أو يصوم أيامًا تطوعية، يتحدى نفسه في الواقع ويرفع من قدراته الروحية. إهمال هذه التحديات يمكن أن يؤدي بمرور الوقت إلى ضعف العزيمة في سبيل الخير والوقوع فريسة لوساوس النفس. هذا الضعف، وإن لم يقضِ على الإيمان مباشرة، إلا أنه يجعله أكثر عرضة للخطر وأقل مرونة أمام أمواج الشك والذنب. في الختام، ترك المستحبات لا يعني الإثم أو الخروج من الإيمان. ولكنه بلا شك يعيق نموه وتقويته، ويحرم الفرد من الفوائد العظيمة والمراتب الروحية الرفيعة. فالإيمان النشط والنامي يسعى باستمرار إلى فرص للتقرب أكثر إلى الله وأداء الأعمال التي يحبها. هذه الأعمال المستحبة هي تجليات لمحبة العبد وشوقه لخالقه، والتخلي عنها، حتى لو لم يكن خطرًا من حيث الإثم، يعني فقدان فرصة ثمينة لتزكية الروح والوصول إلى ذروة الكمال الروحي. لذلك، يمكن القول إن ترك المستحبات، وإن لم يؤدِّ مباشرة إلى ضعف الإيمان، فإنه يغلق الطريق أمام تقويته ورفعته، وقد يؤدي تدريجياً إلى الركود والفتور في ساحة الإيمان.
يُروى أنه في الأزمان الغابرة، عاش درويشان متجاورين في خانقاه. كان أحدهما يكتفي بالواجبات فقط، قائلاً: 'إن الله كريم، ويكفيني أن أؤدي ما هو فرض علي.' أما الآخر، فبالإضافة إلى الواجبات، كان يقضي جزءًا كبيرًا من الليل في الصلاة والذكر والتلاوة، قائلاً: 'يجب على أهل الإحسان أن يجتهدوا أكثر من واجباتهم ليصلوا إلى مقام الإحسان.' مرت الأيام. كان الدرويش الأول دائمًا مرتاح البال وينام هانئًا. لكن الدرويش الثاني، على الرغم من تعبه، كان يمتلئ بنور المعرفة والسلام الروحي. ذات يوم، سُئل: 'ما بك تجتهد كل هذا الجهد، بينما رفيقك لا يحمل مثل هذا العبء؟' فأجاب الدرويش: 'من يكتفي بالواجبات فقط، فهو كمن لا يكسب إلا قوته اليومي ويحرم نفسه من الموائد السماوية. أما من يؤدي المستحبات أيضًا، فقلبه مستيقظ بالذكر، وروحه متصلة بالنور الإلهي. الفرق يكمن في أن أحدهما يبني بيته بالكاد بما يكفيه، والآخر يزينه بالحدائق والبساتين والينابيع. على الرغم من أن بناء البيت واجب، إلا أن نضارة الحديقة هي التي تمنح الروح الحياة.' لذا، فإن أولئك الذين في طريق الحق لا يؤدون إلا الحد الأدنى، يحرمون أنفسهم من العديد من اللذات الروحية، وتبقى أرواحهم عطشى، حتى لو لم يسقطوا في نار جهنم. أما أولئك الذين كرست قلوبهم للمستحبات، فإنهم يقتربون خطوة من ربهم كل يوم، ويتذوقون حلاوة الأنس به، ويصبح إيمانهم أقوى وأجمل.