هل يؤدي الاعتماد على البشر إلى المعاناة؟

يعلمنا القرآن الكريم أن الاعتماد المطلق على البشر يؤدي إلى المعاناة وخيبة الأمل، لأن البشر فانون ومحدودون. السلام الحقيقي يكمن في التوكل الكامل على الله، المصدر اللامتناهي للقوة والملجأ الدائم، بينما العلاقات الإنسانية الصحية المتبادلة مشجعة ولكن ليس كاعتماد مطلق.

إجابة القرآن

هل يؤدي الاعتماد على البشر إلى المعاناة؟

من منظور القرآن الكريم، يعتبر مفهوم «الاعتماد على البشر» مسألة تتطلب توضيحاً وفهماً عميقاً. يعلمنا القرآن أن الاعتماد الكامل والمطلق على أي كائن سوى الله سبحانه وتعالى يمكن أن يؤدي في النهاية إلى المعاناة وخيبة الأمل واليأس. تنبع هذه المعاناة من الطبيعة الفانية والمحدودية والنقص في البشر. فالبشر، مهما كانوا طيبين أو قادرين أو خيّرين، هم كائنات ضعيفة ومتغيرة وزائلة. قد يعجزون، أو تتغير آراؤهم، أو حتى يموتون، وفي كل واحدة من هذه الحالات، فإن من بنى أمله وسنده الأساسي عليهم سيصاب بلا شك بالاضطراب واليأس والحزن. هذه المعاناة لا تنشأ فقط بسبب عدم تحقيق الرغبات، بل أيضاً من الشعور بالوحدة والعجز وفقدان السند. يؤكد القرآن مراراً وتكراراً على مفهوم «التوكل»؛ التوكل يعني الثقة المطلقة وتفويض الأمور إلى الله. يذكرنا هذا التعليم الأساسي بأن الملجأ الحقيقي الوحيد والقوة اللانهائية الوحيدة هي الذات الإلهية. عندما يربط الإنسان، بدلاً من الاتكال على خالق الكون، كل كيانه وتطلعاته بمخلوق مثله، فإنه في الواقع يعرض نفسه لخيبة الأمل. ذلك لأن كل إنسان، مهما كان لديه من قوة أو ثروة أو مكانة، لا شيء أمام القدرة والإرادة الإلهية، ولا يمكنه أبداً تلبية جميع احتياجات الآخرين بشكل كامل أو حمايتهم من جميع الأضرار. عجز البشر عن تحقيق الطموحات بشكل كامل، وتغير الظروف، وحتى رحيلهم المفاجئ من حياة الشخص الذي أصبح معتمداً عليهم، كلها عوامل تمهد الطريق لظهور آلام نفسية وروحية عميقة. ومع ذلك، يجب ملاحظة أن «الاعتماد المطلق» يختلف عن «التعاون والتفاعلات الاجتماعية الصحية». لا ينفي القرآن الكريم بأي حال من الأحوال العلاقات الإنسانية، والمساعدة المتبادلة، والمودة، والدعم المتبادل؛ بل على العكس، يؤكد عليها بشدة. يفضل الإسلام مجتمعاً يكون فيه الأفراد إخوة وأخوات، يدعمون بعضهم البعض، ويتعاونون في أعمال البر والتقوى. ولكن هذه التفاعلات لا ينبغي أن تكون بحيث يجعل الإنسان سعادته وسلامه الداخلي مرتبطين بوجود أو غياب فرد آخر، أو يطلب منه كل أمله وسنده. الخط الفاصل الدقيق بين علاقة صحية ومتبادلة مبنية على المحبة والمساعدة، وبين اعتماد ضار يؤدي إلى فقدان الاستقلال الروحي والنفسي للفرد، يكمن هنا بالضبط. في العلاقات الصحية، يعتبر الأفراد بعضهم البعض مكملين، وليس أن أحدهم يعطي الآخر معنى كاملاً ويشعر بأنه غير موجود بدونه. يعلمنا القرآن أن كل ما في أيدي الناس زائل، وما عند الله باقٍ. لذلك، فإن التعلق بما هو زائل سيؤدي إلى القلق والاضطراب. هذا التعليم لا ينطبق فقط على الأمور المادية، بل يشمل العلاقات الإنسانية أيضاً. عندما نعتمد على شخص ما ونعتبره المصدر الوحيد لسعادتنا أو أمننا أو قيمتنا، فإننا نختبر اضطراباً هائلاً بأدنى تغيير فيه أو في العلاقة. هذا عدم اليقين بحد ذاته هو مصدر كبير للمعاناة. في المقابل، يجلب التوكل على الله راحة البال للإنسان؛ لأنه يعلم أن قوة أبدية لا نهائية تدعمه دائماً وقادرة على توفير الحلول والمساعدة في كل موقف. هذا السلام الداخلي يمنع الفرد من الانهيار حتى عند مواجهة أوجه القصور أو الفشل في العلاقات الإنسانية، بل يسعى للحصول على المساعدة من الهداية الإلهية بالصبر والمثابرة. علاوة على ذلك، ينهى القرآن عن الاعتماد على الظالمين ومن انحرفت قوتهم عن طريق الحق، ويذكر صراحة أن هذا الاعتماد سيؤدي إلى الندم والخسارة. يشير هذا إلى أن الاعتماد على الأفراد أو الجماعات التي لا تتبع الطريق الإلهي ليس فقط عديم الفائدة، بل يمكن أن يؤدي إلى أضرار لا يمكن إصلاحها في الدنيا والآخرة. لذلك، على الرغم من أن الاعتماد المطلق على البشر مستهجن بشكل عام، إلا أن القرآن يؤكد بشكل خاص على التحذير من الاعتماد على الأفراد الخطأ والظالمين. في الختام، يمكن القول إن رسالة القرآن في هذا الصدد هي تحرير الإنسان وتحرره من القيود الروحية والنفسية. يريد الله أن يكون الإنسان كائناً مستقلاً وقادراً يستخدم إمكاناته في الطريق الصحيح، ولتحقيق تطلعاته، لا يطلب المساعدة من البشر الآخرين فقط (مع مراعاة الحدود)، بل يضع توكله في النهاية على خالقه. هذا الاستقلال الروحي والتوكل الحقيقي هما جذور كل سلام وصبر وثبات في مواجهة آلام الحياة ومحنها. فالإنسان الذي يصل إلى هذه المرحلة من التوكل، حتى لو واجه مشكلات أو خيبة أمل في علاقاته الإنسانية، لن يشعر أبداً بالوحدة المطلقة، لأنه يمتلك دائماً ملجأً عظيماً لا حدود له يخلصه من كل ألم وحزن ويهديه إلى السعادة. هذا المفهوم العميق للتوكل لا ينكر الاعتماد المرضي فحسب، بل يمنح الإنسان قوة تمكنه من التفاعل الأمثل حتى في العلاقات الصحية والمتبادلة، دون أن يصبح ضعفه تجاه الآخرين مصدراً دائماً للمعاناة.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

ورد في گلستان سعدي أن رجلاً ربط جميع آماله وتطلعاته بتاجر ثري وذو نفوذ. كان يظن أن ثروة ونفوذ هذا التاجر سيضمنان مستقبله، وأهمل بذلك جهوده الذاتية وتطوير نفسه. كان كل يوم يضع أمله في يد ذلك التاجر، وينتظر موافقته على كل قرار يتخذه. دارت الأيام وأصاب التاجر خسارة فادحة، وزالت قوته، وسقط من منزلة اعتباره. الرجل الذي كان قد سلم وجوده كله له، لم يصبح فقيراً من متاع الدنيا فحسب، بل أصبح من داخله يائساً ومريراً، لأن سنده قد انهار. في تلك اللحظة، أدرك حقاً أن الملجأ الحقيقي والأمان الدائم لا يكمنان في أيدي البشر الفانية، بل في قوة الله الأزلية. هذه المعاناة، وإن كانت مؤلمة، أصبحت نافذة لقلبه ليتجه نحو الحق، ووجد سكينة لم يعرفها قط عندما كان يعتمد على المخلوق؛ سكينة نبعت من التوكل على خالق الوجود.

الأسئلة ذات الصلة