هل كثرة العمل تؤدي إلى الغفلة عن الله؟

كثرة العمل بحد ذاتها لا تؤدي إلى الغفلة، بل الإفراط في طلب الدنيا ونسيان الأهداف الأساسية للحياة والواجبات الدينية هو ما يسبب الغفلة. يؤكد القرآن على التوازن بين السعي في الأرض وذكر الله، ويمدح المؤمنين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.

إجابة القرآن

هل كثرة العمل تؤدي إلى الغفلة عن الله؟

من منظور القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية، فإن العمل والسعي لكسب الرزق وتلبية احتياجات الحياة ليس مذمومًا على الإطلاق، بل هو أمر مستحب، بل واجب. الإسلام يحث أتباعه على عدم البطالة والسعي لكسب الرزق الحلال. وقد وصف النبي محمد صلى الله عليه وسلم العمل والكسب الحلال بأنه جهاد في سبيل الله. ولكن السؤال الجوهري هنا هو: هل يمكن لهذا العمل والسعي المتواصل أن يصل إلى حد يغفل فيه الإنسان عن الله وواجباته الروحية؟ جواب القرآن على هذا السؤال دقيق وحكيم: "كثرة العمل" بحد ذاتها ليست بالضرورة سببًا للغفلة، بل إن "التعلق المفرط بالدنيا ونسيان الهدف الأساسي للخلق والآخرة" هو ما يؤدي إلى الغفلة. القرآن الكريم يشير إلى هذا الموضوع في عدة آيات. على سبيل المثال، توضح سورة الجمعة، الآيتان 9 و 10، التوازن بين العمل والعبادة بشكل جلي. في الآية 9 يقول تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ". هذا الجزء يبين أنه في لحظات العبادة الأساسية، يجب إعطاء الأولوية لذكر الله، حتى لو تطلب ذلك ترك التجارة مؤقتًا. ولكن مباشرة في الآية 10 يضيف: "فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ". هذه الآية توضح بجلاء أنه بعد أداء الفريضة، يمكن للإنسان العودة إلى العمل والسعي، ولكن بشرط مهم جدًا: "واذكروا الله كثيرًا". هذا يعني أن حضور القلب وذكر الله يجب أن يبقى في جميع مراحل الحياة، حتى في أوج الأنشطة الدنيوية. مفهوم "الغفلة" في القرآن يعني عدم الوعي والإهمال للحقائق الهامة في الحياة، وخاصة الحقائق الإلهية ويوم القيامة. يحذر القرآن الناس مرارًا وتكرارًا من الغفلة. ففي سورة النور، الآية 37، يمدح الله رجالًا "لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ". هذه الآية تقدم معيارًا ذهبيًا: ليس العمل نفسه، بل مدى تأثيره على علاقة الإنسان بالله هو المهم. المؤمن الحقيقي هو الذي لا يغفل عن ذكر ربه حتى في ذروة الأنشطة الاقتصادية، ويؤدي صلاته وزكاته. وهذا يدل على التوازن والنضج الروحي الذي يمكنه المواءمة بين الاحتياجات المادية والروحية. تحدث الغفلة عن الله عادة عندما تتحول الدنيا إلى هدف أساسي، بدلاً من أن تكون وسيلة للوصول إلى الآخرة. تصور سورة التكاثر هذا الخطر بشكل جميل: "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ." (لقد ألهتكم كثرة الأموال والأولاد، حتى زرتم المقابر). هذه الآيات تحذر من أن التنافس في جمع الثروات والمناصب يمكن أن يشغل الإنسان لدرجة ينسى فيها الهدف النهائي للحياة، ويجد نفسه فجأة على أعتاب الموت، دون أن يكون قد أعدَّ زادًا لآخرته. هذا تحذير عميق ضد السماح للطموحات الدنيوية باستهلاك وجود الإنسان بالكامل، مما يؤدي إلى النسيان الروحي. لذلك، فإن الحل القرآني ليس في ترك الدنيا والعمل، بل في "الاعتدال" و"توجيه" هذا العمل. يجب أن يكون العمل موجهًا لمرضاة الله وكسب الرزق الحلال ليتم استخدامه في سبيل الخير والصلاح. يجب أن يكون ذكر الله حاضرًا في جميع جوانب الحياة. يشمل هذا الذكر الصلوات الخمس، تلاوة القرآن، الأذكار والأدعية، التفكر في آيات الله، والشكر على النعم. يمكن للعامل، والمزارع، والتاجر أن يذكر الله أثناء عمله؛ بالصدق في المعاملة، ومراعاة حقوق الآخرين، والابتعاد عن الظلم والغش، وبنية مساعدة الأسرة والمجتمع، يمكنه تحويل عمله إلى عبادة عظيمة. كما يؤكد القرآن على أن الحياة الدنيا مجرد ممر، وأن الدار الحقيقية هي الآخرة. في سورة القصص، الآية 77، يقول تعالى: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا". هذه الآية تقدم إطارًا شاملاً: الدنيا وسيلة للآخرة، ولا ينبغي للإنسان أن يصرف كل همه وجهده فيها، لكن لا ينبغي أيضًا أن يتخلى عنها تمامًا. بل يجب أن يستفيد من الدنيا بطريقة لا تضر بآخرته. في الختام، يمكن القول إن أي قدر من العمل، إذا اقترن بالنية الإلهية، ومراعاة الحدود الشرعية، والحفاظ على الاتصال بالله، فإنه لا يعتبر سببًا للغفلة. بل على العكس، يمكن أن يكون وسيلة للتقرب إلى الله. الخطر الحقيقي يكمن في تحول العمل إلى صنم ونسيان الله. يجب على الإنسان أن يراقب قلبه باستمرار لئلا تخلق التعلقات الدنيوية، بما في ذلك المهنة والثروة، حجابًا بينه وبين خالقه. ذكر الله، وإعطاء الأولوية للعبادات، والنظر إلى الدنيا كوسيلة لا غاية، ستكون حواجز قوية ضد الغفلة، وستساعد الإنسان على العيش بأفضل شكل في الدنيا وضمان سعادة الآخرة.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

في قديم الزمان، كان هناك تاجر مجتهد يدعى بهرام في مدينة شيراز. لقد كان منغمسًا جدًا في عمله لدرجة أنه كان مشغولًا بحساب العملات وإبرام الصفقات من الفجر حتى الغسق، وأحيانًا حتى منتصف الليل. كانت ثروته تتزايد يومًا بعد يوم، ولكن ببطء، بدأ يغفل عن عائلته وأصدقائه، والأهم من ذلك، عن صلواته وذكر الله. قلبه، الذي كان ينبض بالسلام الروحي، أصبح الآن مثقلاً بهموم الدنيا. في إحدى الليالي الباردة، مر درويش عجوز بجوار دكانه، ورأى بهرام ما زال يعمل بمفرده تحت ضوء المصباح الخافت، بعد أن أغلقت جميع المتاجر الأخرى أبوابها. نادى الدرويش بصوت رقيق ولطيف: "يا بهرام، كم تجمع لجسدك، ولكن ماذا تجمع لروحك؟" صعق بهرام من الصوت، ورفع رأسه، ولأول مرة منذ فترة طويلة، تأمل بعمق. أدرك أنه بينما كانت خزائنه ممتلئة، كانت روحه خاوية من النور والسلام. منذ ذلك اليوم، واصل بهرام تجارته باجتهاد، لكنه تعلم تخصيص وقت محدد لواجباته الروحية، وعائلته، وللتعبير عن امتنانه للنعم التي يمتلكها بالفعل. فهم أن الرخاء الحقيقي هو توازن بين السعي الدنيوي وذكر الله المستمر. بعد هذا الإدراك، لم يصبح بهرام أكثر نجاحًا في تجارته فحسب، بل وجد أيضًا سكينة وبركة في حياته لم تمنحها له أي ثروة من قبل.

الأسئلة ذات الصلة