لتجنب الأحكام غير المبررة، يجب الابتعاد عن سوء الظن والتجسس والغيبة، مع تذكر أن الله عليم بكل ما نقول ونفكر.
إن إصدار الأحكام المتسرعة وغير المبررة هو آفة مدمرة لا تقتصر على إلحاق الضرر بالعلاقات الإنسانية فحسب، بل تعيق أيضًا النمو الروحي للفرد، وتدفع المجتمع نحو الشك والتشاؤم. إن القرآن الكريم، بصفته كتاب هداية للبشرية، يقدم حلولًا عملية وأساسية ببيان بليغ وحاسم لمكافحة هذه المشكلة. لفهم هذا الموضوع بعمق وإيجاد إجابته القرآنية، يجب علينا الرجوع إلى عدة آيات تتناول هذا السلوك بشكل مباشر أو غير مباشر. يكمن المحور الأساسي للإجابة على هذا السؤال في القرآن الكريم في سورة الحجرات، الآية 12. هذه الآية تحرم بوضوح ثلاثة سلوكيات رئيسية هي جذور وثمار الأحكام غير المبررة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحجرات، 12). **1. اجتناب سوء الظن والافتراضات التي لا أساس لها (اجتنبوا كثيرًا من الظن):** الخطوة الأولى في منع الأحكام غير المبررة هي السيطرة على العقل والقلب. تنبع العديد من الأحكام من افتراضات سلبية وتخمينات ليس لها أي أساس في الواقع. يعلمنا القرآن أن نتجنب "كثيرًا من الظن"، لأن بعضها "إثم". هذا يعني أن الأصل هو أن ننظر إلى الناس بحسن نية وظن حسن. إن سوء الظن لا يضر الشخص الذي يُحكم عليه فحسب، بل يلوث أيضًا روح وقلب من يحكم، مما يؤدي إلى القلق والتشاؤم وفقدان السلام الداخلي. عندما نسمح لأنفسنا بالحكم على الآخرين بناءً على التخمين، فإننا نفتح بابًا للشك وفي النهاية العداء. وهذا يدمر المجتمع ويقوض الثقة العامة. لتجنب سوء الظن، يجب أن ندرب أنفسنا فكريًا على البحث دائمًا عن التفسير الأفضل والأكثر إيجابية لسلوك الآخرين في أي موقف. ما لم يكن هناك دليل واضح وجلي على عكس ذلك، يجب أن نفترض صحة وحسن فعل الطرف الآخر. هذا الموقف لا يحمينا من إثم الحكم غير المبرر فحسب، بل يجعلنا نشعر بمزيد من السلام والنقاء الداخلي. **2. عدم التجسس (ولا تجسسوا):** بعد السيطرة على الأفكار والافتراضات، الخطوة الثانية هي عدم البحث أو التقصي في شؤون الآخرين الخاصة. التجسس يعني محاولة اكتشاف العيوب الخفية أو الأسرار الخاصة للأفراد. وهذا محظور صراحة في القرآن، لأنه يعتبر انتهاكًا لخصوصية الأفراد ويؤدي إلى كشف الأسرار والتسبب في الخزي والضيق. غالبًا ما تنجم الأحكام غير المبررة عن التجسس وجمع معلومات ناقصة أو غير صحيحة عن حياة الآخرين. عندما يضع شخص نفسه في موقع المتجسس، فإنه يبحث أساسًا عن عيب ليجعله ذريعة لحكمه. هذا السلوك ليس محرمًا فحسب، بل يضر بشدة بالعلاقات الإنسانية ويعزز الشعور بعدم الثقة في المجتمع. إن حماية خصوصية الأفراد مبدأ أخلاقي وقرآني يعلمنا ألا نتدخل في حياة الآخرين وأن نحترم الحدود الشخصية. إذا علمنا صدفة بعيب ما، فواجبنا هو ستره وعدم كشفه، إلا في الحالات التي يكون فيها كشفه لمصلحة عامة أو لمنع ضرر أكبر، وهي حالات لها ضوابط شرعية خاصة بها. **3. اجتناب الغيبة (ولا يغتب بعضكم بعضًا):** الغيبة تعني التحدث بالسوء عن شخص ما في غيابه وكشف عيوبه، حتى لو كانت حقيقية. يشبه القرآن هذا الفعل بمثال صادم ومقزز: "أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا؟" هذا التشبيه يدل على القبح والشناعة البالغة للغيبة من المنظور القرآني. الغيبة في حد ذاتها هي ذروة الحكم غير المبرر ونشره. حتى لو كان ما نقوله حقيقة، فإنه لا يزال يعتبر غيبة، لأن الهدف منه هو تدمير شخصية الفرد وسمعته. يتطلب منع الغيبة السيطرة على اللسان والامتناع عن المشاركة في المحادثات التي تؤدي إلى تشويه سمعة الآخرين. عندما يغتاب شخص ما، فإنه في الحقيقة يدوس على حقوق الشخص الغائب ولا يسمح له بالدفاع عن نفسه. المجتمع الذي تنتشر فيه الغيبة سيصبح مليئًا بالضغينة والعداوة. يعلمنا هذا أن لا نبتعد عن الأحكام غير المبررة فحسب، بل أن نمتنع بشدة عن نشرها. بالإضافة إلى سورة الحجرات، هناك آيات أخرى تساهم في هذا الموضوع: * **سورة الإسراء، الآية 36:** ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾. تذكرنا هذه الآية بأن أساس كل قول وفعل يجب أن يكون العلم واليقين، لا الظن والتخمين. إن الحكم دون علم كافٍ ينبع من عدم اتباع هذا الأمر الإلهي ويؤدي إلى المساءلة. تشير هذه الآية بشكل مباشر إلى مسؤولية الإنسان عن المعلومات التي يتلقاها ويتصرف بناءً عليها. كل كلمة ننطق بها وكل حكم نصدره يجب أن يكون مبنيًا على المعرفة والتحقيق، لا على الشائعات والتخمينات. آذاننا وعيوننا وقلوبنا هي أدوات لاكتساب المعرفة، وسنسأل عنها يوم القيامة عن كيفية استخدامنا لها. هذا يعني أننا إذا حكمنا بناءً على ما سمعناه أو رأيناه أو استنتجناه بقلوبنا دون تحقيق كافٍ، فسنكون مسؤولين عن العواقب. * **سورة الحجرات، الآية 11:** ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾. تنهى هذه الآية صراحة عن السخرية واللمز، وهما من المظاهر الواضحة للأحكام السلبية والمحتقرة. السخرية من الآخرين شكل من أشكال الحكم بناءً على المظهر أو العيوب المتصورة وتشير إلى الغطرسة والتفوق الذاتي المذموم في الإسلام. تعلمنا هذه الآية أن نفترض دائمًا أن الشخص الذي نحكم عليه أو نسخر منه قد يكون له مكانة ومنزلة أعلى عند الله منا. يجبرنا هذا النهج على التواضع ويمنعنا من النظر إلى الآخرين بازدراء. **حلول عملية لمنع الأحكام غير المبررة:** 1. **معرفة الذات ورؤية عيوبها:** بدلًا من التركيز على عيوب الآخرين، ركز على عيوبك وحاول إصلاحها. من ينشغل بإصلاح نفسه يجد فرصًا ورغبة أقل في الحكم على الآخرين. 2. **التحكم في اللسان:** اللسان عضو صغير لكن له قوة عظيمة. المسلم الحقيقي هو من يسلم الناس من لسانه ويده. قبل كل كلمة، فكر هل هي ضرورية ومفيدة أم لا. 3. **تعزيز حسن الظن:** حاول دائمًا إيجاد أفضل تفسير لأفعال الآخرين، واتخذ حسن الظن بدلًا من سوء الظن. 4. **احترام الخصوصية:** امتنع بشدة عن التجسس والفضول في شؤون الآخرين الشخصية، واحترم الحدود الشخصية. 5. **التفكير في العواقب:** فكر في العواقب الوخيمة للأحكام غير المبررة، في الدنيا والآخرة. تدمير العلاقات، وخلق الضغينة، وفقدان السمعة، والمساءلة يوم القيامة، كلها نتائج سلبية لهذا السلوك. 6. **التوكل على الله وتذكر الرقابة الإلهية:** اعلم أن الله عليم بكل الأمور وشاهد عليها، وهو أفضل الحاكمين. هذا الوعي يمنعنا من إصدار الأحكام المتسرعة. من خلال العمل بهذه التعاليم القرآنية، يمكننا بناء مجتمع أكثر صحة، مليئًا بالثقة والاحترام المتبادل، وتحقيق السلام الروحي والرضا الإلهي لأنفسنا. هذا المسار هو طريق نحو النمو الروحي والقرب من الله، حيث تتطهر القلوب من الضغينة والتشاؤم، ويحل محلها الحب والتعاطف.
يُحكى أن رجلاً كان لسانه لا يتوقف عن الانتقاد، ودائمًا ما كان يحكم على الآخرين ويجد فيهم العيوب. ذات يوم، مر بجانب منزل عارف ورأى مكتوبًا بخط جميل على جداره: "أيها النفس، إن لم تصلح نفسك، فامنع لسانك عن عيب الآخرين." تأمل الرجل في هذه الكلمات طويلاً. وكلما همّ بالحكم على أحد، تذكر تلك الجملة، وبدأ يوبّخ نفسه: "هل أنت بلا عيب لتبحث عن عيوب الآخرين؟" وهكذا، شيئًا فشيئًا، غلبه الخجل من نفسه، وأدرك أنه هو أيضًا ليس خاليًا من العيوب. فبدأ في إصلاح ذاته، وتوقف لسانه عن إصدار الأحكام غير المبررة. ومنذ ذلك الحين، لم يكتفِ بتحسين نفسه فحسب، بل نظر إلى الآخرين بعين الشفقة، ووجد قلبه يمتلئ بالسلام.