لتمييز القرار الإلهي عن النفساني، انظر إلى نيتك، السكينة القلبية بعد القرار، ومدى تقواك واستشارتك لأهل الحكمة. القرار الإلهي يجلب الطمأنينة ويؤدي إلى الخير، بينما النفساني يؤدي إلى القلق والندم.
من التحديات العميقة والدائمة للإنسان في رحلة الحياة هو تمييز مصدر قراراته وأفكاره: هل هذا القرار إلهام من الله، وموافق لرضاه، أم أنه نابع من وسوسة النفس الأمارة بالسوء ورغبات الدنيا؟ لقد قدم القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية حلولاً دقيقة وعملية لهذا التمييز، وفهمها وتطبيقها يمكن أن يحل العديد من المعضلات ويساعد الفرد في مساره نحو الكمال. التمييز بين هذين الأمرين، أكثر من كونه مجرد صيغة جافة وثابتة، يتطلب معرفة الذات، والبصيرة، والتربية المستمرة للروح. في الخطوة الأولى، يجب أن نفهم أن نفس الإنسان لها مراتب مختلفة؛ من "النفس الأمارة بالسوء" التي تأمر بالشر باستمرار، إلى "النفس اللوامة" التي تلوم الإنسان على أخطائه، وأخيراً "النفس المطمئنة" التي بلغت السكينة والرضا الإلهي. القرارات النفسانية غالباً ما تكون متجذرة في النفس الأمارة بالسوء. هذه القرارات عادة ما تتميز بالرغبة في اللذات الفورية والزائلة، وتحقيق المصالح الشخصية دون الاهتمام بحقوق الآخرين، واتباع الهوى، والتكبر، والحسد، والأنانية، والعجلة. قد تبدو هذه القرارات جذابة ومغرية في البداية، ولكن على المدى الطويل تؤدي إلى القلق والندم والابتعاد عن طريق الحق. أن يكون القرار نفسانياً يعني أن الدافع الأساسي له هو رغبات الفرد وأهوائه الداخلية، دون اعتبار للقيم الأخلاقية والإلهية. لقد حذر القرآن الكريم الإنسان مراراً وتكراراً من اتباع هوى النفس، لأن هذا المسار يمكن أن يحرفه عن الصراط المستقيم. في المقابل، القرارات الإلهية هي تلك الاختيارات التي تتوافق مع الفطرة الإنسانية النقية وتعاليم القرآن والسنة. تتميز هذه القرارات غالباً بالعدل، والإحسان، والتضحية، والتقوى، والاعتدال، والرضا الداخلي، والسكينة. مصدر هذه القرارات هو الإلهام الإلهي، ونور العقل، والهداية الفطرية التي أودعها الله في قلب كل إنسان. يؤدي القرار الإلهي إلى النمو الروحي، وراحة القلب، وتحقيق الرضا الإلهي، حتى لو كان مصحوباً ببعض الصعوبات الظاهرة. يقول القرآن الكريم في سورة الأنفال، الآية 29: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا"؛ أي: "يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً". هذه الآية هي المبدأ الأساسي في التمييز بين الحق والباطل، والقرار الإلهي من النفساني. التقوى، بمعنى خشية الله والورع، لا تمنح الإنسان بصيرة ورؤية أعمق فحسب، بل تحميه أيضاً من وساوس النفس والشيطان، وتمنحه قدرة تمييز أدق لاختيار المسار الصحيح. للتمييز العملي، هناك عدة خطوات أساسية: أولاً، مراجعة النية: هل نيتك الأساسية من هذا القرار هي السعي لرضا الله وأداء الواجب الإلهي، أم تحقيق مصالح شخصية، أو الشهرة، أو الهروب من المسؤولية؟ يؤكد القرآن على أهمية النية الخالصة في جميع الأعمال. ثانياً، المشاورة والتفكر: قبل أي قرار، استشر أهل العقل والدين. يأمر القرآن في سورة آل عمران، الآية 159، النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) بالمشاورة مع أصحابه: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ". هذه المشاورة، بالإضافة إلى توضيح أبعاد مختلفة للموضوع، تساعد الإنسان على التحرر من فخ الغرور والكبر النفساني. كذلك، التفكير العميق في العواقب الدنيوية والأخروية للقرار، من المبادئ الهامة للتمييز. ثالثاً، الاستخارة والدعاء: إذا بقيت متردداً بعد التفكر والمشاورة والبحث، فتضرع إلى الله وادعه بصلة الاستخارة أو الدعاء بالخير، واطلب منه أن يدلك على أفضل طريق. هذه الطريقة هي نوع من تفويض الأمر إلى الله والثقة بحكمته. رابعاً، ملاحظة راحة القلب: أهم علامة على القرار الإلهي هي السكينة والاطمئنان القلبي الذي ينتج عنه. يقول القرآن: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد: 28)؛ "ألا بذكر الله تطمئن القلوب". إذا جلب قرار السكينة والهدوء لقلبك وحررك من القلق، فهذا دليل على أنك اتخذت خطوة في الطريق الإلهي. على النقيض، القرارات النفسانية غالباً ما تكون مصحوبة بالاضطراب والقلق والندم. أخيراً، يجب تذكر أن هذه العملية هي مسار دائم ويجب على الإنسان أن يهذب نفسه ويراقبها باستمرار ليكون في مأمن من فخاخها. الالتزام بالتقوى الإلهية، والابتعاد عن الذنوب، وذكر الله الدائم، ودراسة القرآن، والعمل بسنة النبي (صلى الله عليه وسلم) من أهم العوامل التي تساعد الإنسان على تقوية قدرته على التمييز والتحرك في المسار الإلهي. الهدف النهائي هو الوصول إلى "النفس المطمئنة" التي تكون فيها جميع قرارات الإنسان متوافقة مع رضا الله والخير المطلق. هذا المسار يتطلب الممارسة، وتزكية النفس، والتوكل المطلق على الله، لأنه وحده هو الهادي الحقيقي للإنسان، وكل خير يأتي من عنده. بالالتزام بهذه المبادئ، يمكن للمرء أن يخطو خطوات ثابتة نحو القرب من الله ويعيش حياة ببصيرة وهدوء أكبر.
يروى أنه في قديم الزمان، واجه حاكم معضلة. كان متردداً بين قرارين: أحدهما يجلب له ربحاً كبيراً ولكن معاناة لرعيته، والآخر يخدم مصلحة الشعب وإن بدا دون فائدة شخصية. كان الملك حائراً أي الطريق هو الصواب. فذهب إلى حكيم وسأله: "يا شيخنا الحكيم، كيف أعرف إن كان هذا النداء من نفسي أم من ربي؟" فأجاب الحكيم بلطف: "يا ملك! النداء الذي يدعوك إلى المنفعة الشخصية وإلحاق الضرر بالآخرين، وإن بدا حلواً في البداية، فذلك وسوسة النفس. أما النداء الذي يدفعك نحو العدل وخدمة الخلق، حتى لو بدا صعباً في تلك اللحظة ويقلل من منفعتك الشخصية، فذلك إلهام إلهي. لأن مكافأته هي سلام القلب، ورضا الخلق، ودوام الملك. فانظر هل قلبك يجد الطمأنينة بعد هذا القرار أم القلق؛ فبالتأكيد، القلب المطمئن علامة رضا الحق، والقلب المضطرب علامة وسوسة النفس." فأخذ الملك بهذه النصيحة الحكيمة وسار على درب العدل، فازدهر ملكه وخلد اسمه الطيب.