لكي نرى أنفسنا من منظور الله، يجب أن ندرك كرامتنا المتأصلة، ودورنا كخلفاء له، ووضعنا ككائنات تخضع للاختبار. الله على علم بأفعالنا ونوايانا، وبرحمته الواسعة، هو مستعد دائمًا لقبول توبتنا وإرشادنا.
إن فهم كيفية رؤية الله لنا هو أحد أعمق الرؤى التحويلية التي يمكن للمؤمن تحقيقها. يتجاوز هذا المنظور أحكام البشر، وتوقعات المجتمع، أو حتى تصوراتنا عن أنفسنا. يذكرنا القرآن الكريم باستمرار أن القيمة الحقيقية للإنسان تكمن في ارتباطه بالخالق وطاعته لأوامره. عندما نسعى لرؤية أنفسنا من منظور إلهي، فإننا في الأساس نعود إلى جذور وجودنا وندرك المكانة الرفيعة التي قدرها الله لنا. لا يمهد هذا المنظور طريق نمونا الروحي فحسب، بل يقوينا أيضًا ضد التحديات ومشاعر عدم الكفاءة. النقطة الأولى والأكثر أهمية التي يعلمنا إياها القرآن عن الإنسان هي كرامته وشرفه المتأصل. ففي سورة الإسراء، الآية 70، يقول الله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا). هذه الآية تعبر بوضوح عن أن الإنسان ليس كائنًا عاديًا؛ بل له مكانة خاصة ومتفوقة بين المخلوقات. لقد منَّ الله علينا بالعقل والإرادة وقوة الاختيار والقدرة على تمييز الحق من الباطل. تمنحنا هذه الكرامة المتأصلة إحساسًا بالاستحقاق وتذكرنا بأننا لا ينبغي أبدًا أن نعتبر أنفسنا عديمي القيمة أو بلا هدف. ومن منظور إلهي آخر تجاه الإنسان، دورنا كـ "خليفة الله" على الأرض. ففي سورة البقرة، الآية 30، نقرأ: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). تُظهر هذه الآية أن الإنسان لم يُخلق للعبادة فحسب، بل أيضًا لإدارة الأرض وتنميتها. لقد ائتمننا الله على الأرض وعهد إلينا بمسؤولية إقامة العدل ونشر الخير ومحاربة الفساد. عندما نرى أنفسنا خلفاء لله، يتولد لدينا شعور أعمق بالمسؤولية تجاه أفعالنا وتأثيراتنا. من المنظور الإلهي، حياتنا اختبار عظيم. ففي سورة الإنسان، الآية 2، جاء: "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا" (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا). يساعدنا هذا المنظور على رؤية الصعوبات والتحديات وحتى ذنوبنا في إطار رحلة نمو. يعلم الله أن لدينا نقاط ضعف وقد نخطئ، لكن المهم هو أن نتعلم من هذه الاختبارات، ونتوب، ونعود إليه. إنه يقدر جهودنا وندمنا، وليس الكمال الخالي من العيوب في الخطوة الأولى. أحد أهم جوانب نظرة الله إلينا هو علمه بكل تفاصيل وجودنا وأعمالنا. ففي سورة ق، الآية 16، يُقرأ: "وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ" (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد). هذا القرب يدل على علم الله المطلق بأفكارنا ونوايانا، وحتى أدق همسات قلوبنا. إنه لا يرى أعمالنا الظاهرة فحسب، بل يعلم دوافعها وجودتها الباطنية. تزيد هذه المعرفة المطلقة من مسؤوليتنا وتوجهنا نحو الإخلاص والابتعاد عن الرياء. عندما نعلم أننا دائمًا تحت نظر المراقب الأرحم والأعلم، نسعى لأن نكون أفضل نسخة من أنفسنا. من الضروري جدًا أن ندرك أن الله لا ييأس من ذنوبنا. ففي سورة الزمر، الآية 53، جاء: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم). تفتح هذه الآية لنا بابًا لا حدود له من الأمل والمغفرة. يرى الله ضعفنا وأخطائنا، لكن الأهم من ذلك، أنه يرى ندمنا ورغبتنا في العودة. إنه يحكم علينا ليس بناءً على خطيئة واحدة، بل بناءً على مجموع مسار حياتنا، وتوبتنا، وجهودنا نحو الإصلاح الذاتي. تمنحنا هذه الرحمة الواسعة الشجاعة للنهوض مرة أخرى بعد كل عثرة والتقدم نحوه. في الختام، لكي نرى أنفسنا من منظور الله، يجب أن ننظر إلى ما وراء المظاهر والماديات. إن الله ينظر إلى القلوب والنوايا. قيمتنا عنده تتحدد بتقوانا وإخلاصنا وأعمالنا الصالحة وصبرنا وشكرنا ومحبتنا لخلقه. لقد أتاح لنا الفرصة لبلوغ أسمى درجات الكمال البشري من خلال العبادة الخالصة، والسعي في الخير، والعلاقة الحميمة معه. رؤية الذات من المنظور الإلهي تعني قبول الكرامة، وتحمل المسؤولية عن رسالة الخلافة، والتعلم من الاختبارات، والاعتماد على رحمته اللامتناهية. يمنحنا هذا المنظور السلام والهدف والدافع للسير دائمًا في الطريق الذي يرضي خالقنا وأن نعتبر أنفسنا مستحقين لحبه وفضله. هذه هي المعرفة الحقيقية بالذات التي تؤدي إلى التطور الذاتي والسعادة الأبدية.
في يوم من الأيام، كان شيخ ورع يتحدث إلى مريديه عن أهمية معرفة النفس ومكانة الإنسان عند الرب. سأل أحد المريدين: "يا شيخ، كيف أستطيع أن أرى نفسي من منظور الحق تعالى لأدرك طريق الخلاص بشكل أفضل؟" ابتسم الشيخ وقال: "احذر أن تغلق عيني قلبك عن الظاهر. رأيت رجلًا غنيًا يجلس على عرش العز وله خدم وحشم كثيرون. كان يظن أن له مكانة عظيمة عند الله. ولكن في إحدى الليالي، رأى في المنام ملاكًا قال له: 'لا تُحكم عليك بثروتك وقوتك، بل بمدى تواضعك وإحسانك.' فقام الرجل في الصباح، وبذل كنوزه في سبيل الله، وطهّر نفسه من غبار الدنيا. لقد فهم أن القيمة الحقيقية للإنسان ليست في المال والجاه، بل في طهارة النية وحسن العمل. لذا، فانظر أنت أيضًا إلى نفسك في مرآة أعمالك ونواياك الصافية، لا في مرآة الرغبات الدنيوية وأحكام الناس. كلما كان قلبك أنقى وعملك أفضل، كنت أعز عند الله، لأنه يرى ويعلم الخفي والظاهر، ويمنح الأجر الحقيقي لمن يسعون لرضاه."