يرى القرآن الشهوة ميلًا عابرًا، أنانيًا، وغالبًا زائلًا يؤدي إلى الضلال إذا لم يتم التحكم فيه. في المقابل، يعرف المحبة كعاطفة عميقة، دائمة، وإيثارية متجذرة في الاتصال بالله، تؤدي إلى الكمال والسكينة.
إن فهم التمييز بين 'الشهوة' و'المحبة' من منظور القرآن الكريم هو أحد أهم المواضيع التي تساعد الإنسان على الوصول إلى حياة متوازنة وروحانية. يميز القرآن بدقة وجمال بين هذين المفهومين، اللذين ينبعان كلاهما من الغرائز والعواطف البشرية، ويوضح طريق الهداية للبشرية. تشير الشهوة في الخطاب القرآني بشكل أكبر إلى الرغبات الجسدية والنفسية التي، إذا لم يتم التحكم فيها وتوجيهها بالعقل والوحي، يمكن أن تؤدي إلى الضلال والفساد. في المقابل، المحبة مفهوم أوسع وأعمق وأسمى، ينبع من الفطرة البشرية النقية، ويمكن أن يوجه الإنسان نحو الخير والكمال والاتصال بالذات الإلهية. يشير القرآن الكريم في آيات عديدة إلى الشهوات والميول الطبيعية للإنسان، ولكن بلهجة واقعية وتحذيرية. لا ينكر هذا الكتاب الإلهي وجود الشهوات نفسها، بل يعتبرها جزءًا من الطبيعة البشرية وامتحانًا إلهيًا. الآية 14 من سورة آل عمران مثال بارز لهذا النهج، حيث يقول تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ»؛ أي: «زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والأموال الكثيرة من الذهب والفضة والخيل الجيدة والأنعام والزرع. ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب.» توضح هذه الآية بوضوح أن هذه الميول (مثل الميل إلى النساء والأولاد والثروة وغيرها) هي من زينة الحياة الدنيا التي زينها الله للإنسان. النقطة الأساسية هنا هي أن القرآن يصفها بأنها 'متاع الحياة الدنيا'، أي شيء زائل وفانٍ، ولا ينبغي أن يكون الهدف النهائي للحياة. عندما تتجاوز هذه الميول حد الاعتدال وتصبح غاية في حد ذاتها بدلاً من كونها وسيلة، فإنها تتحول إلى شهوة مذمومة وتبعد الإنسان عن طريق الحق. تشير الشهوة هنا إلى الرغبة الجامحة التي لا تتقيد بأي قيود شرعية أو أخلاقية، وغالبًا ما تتجه نحو المتعة الفورية والأنانية. في المقابل، مفهوم 'المحبة' في القرآن أعمق وأكثر تعددًا. يمكن أن تظهر المحبة بأشكال مختلفة: المحبة الإلهية (محبة الله لعباده ومحبة العباد لله)، ومحبة الأنبياء والأولياء، والمحبة بين الأزواج، ومحبة الأبناء والوالدين، ومحبة بني الإنسان وجميع المخلوقات. الجذر الأساسي للمحبة الحقيقية في القرآن هو محبة الله. تشرح الآية 165 من سورة البقرة هذه النقطة بجمال: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ»؛ أي: «ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله.» تبين هذه الآية أن المحبة الحقيقية وأقواها يجب أن تكون تجاه خالق الوجود. هذا النوع من المحبة لا يوجه الإنسان نحو الكمال فحسب، بل ينظم ويعدل جميع أشكال المحبة الأخرى. المحبة التي تكون ضمن إطار رضا الله، ليست مذمومة فحسب، بل هي محمودة وعامل للسعادة. مثال آخر بارز للمحبة السامية في القرآن هو المحبة بين الأزواج، والتي توصف في الآية 21 من سورة الروم بكلمتي 'مودة' و'رحمة': «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»؛ أي: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.» 'المودة' تعني الصداقة والحب الظاهري والباطني، و'الرحمة' تعني الشفقة واللطف التي تظهر في الصعوبات. هذه العلاقة الزوجية، المصحوبة بالمودة والرحمة، تتجاوز مجرد الميل الجسدي (الشهوة). قد تكون الشهوة شرارة لبدء العلاقة، ولكن المودة والرحمة هما اللتان تجعلانها مستقرة وعميقة. إذا بنيت العلاقة فقط على الشهوة، فإنها تتلاشى بعد الإشباع وتؤدي إلى الفراغ، بينما المحبة العميقة المصحوبة بالرحمة تستمر وتتطور. يمكن تلخيص الفرق الرئيسي بين الشهوة والمحبة في القرآن في عدة أبعاد: الهدف، الاستدامة، الأنانية مقابل الإيثار، والتوجه الروحي. الشهوة غالبًا ما تكون ذاتية، عابرة، وزائلة، وهدفها إشباع النفس واللذة الفورية. عندما يكون الهدف هو إشباع الشهوة فقط، قد يلجأ الفرد إلى أي وسيلة، حتى غير المشروعة، ويشعر بالفراغ والندم بعد الإشباع. لكن المحبة، وخاصة المحبة الإلهية ونوع المحبة الإنسانية الذي ينبع منها، مستدامة، إيثارية، وموجهة نحو الخير والكمال. هدف المحبة هو القرب من المحبوب، التضحية من أجله، والوصول إلى السكينة والرضا الداخلي. هذه المحبة لا تتلاشى مع الإشباع، بل تتعمق وتنمو. يؤكد القرآن أيضًا على ضرورة التحكم في النفس وتجنب اتباع 'الهوى' (الرغبة النفسية)، والذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالشهوة الجامحة. في سورة يوسف، جاء في الآية 53: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ»؛ أي: «وما أبرئ نفسي؛ إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي؛ إن ربي غفور رحيم.» تبين هذه الآية أن النفس البشرية لديها ميل فطري للشر وإشباع الشهوات، وتحتاج إلى التحكم والتوجيه الإلهي. لذلك، يدعو القرآن الإنسان إلى التوازن؛ ليس إلى قمع الغرائز بالكامل، بل إلى إدارتها وتوجيهها بشكل صحيح ضمن إطار الحلال وحسن الخلق، بحيث تصبح هذه الغرائز أدوات للوصول إلى الكمال بدلاً من أن تكون عوائق. هذه الإدارة نفسها تحول الشهوة الفانية إلى محبة مستدامة ونامية. في الختام، يقدم القرآن الكريم بدقة وجمال طريقة للتمييز بين هذين الشعورين الإنسانيين: الشهوة هي ميل إذا تجاوز حدوده ولم يتم توجيهه، يؤدي إلى الفساد والهلاك؛ بينما المحبة، لها جذر إلهي، وإذا وضعت في المسار الصحيح ووجهت نحو الله وما يحبه، تصبح عامل نمو، وسكينة، وسعادة، وتقرب إلى الله. يعلم القرآن الإنسان ألا يكون أسيرًا لشهواته، بل أن يسيطر عليها ويوجه طاقتها في مسار تنمية المحبات النقية والإلهية لتحقيق الرضا الأبدي.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك تاجر ثري يمتلك الكثير من المال، وكان يحقق كل ما يشتهيه قلبه. لكن كلما ازداد سعيه وراء متع الدنيا، قلّت راحته، ولم تروَ عطشه للأشياء الجديدة أبدًا. كان يلهث وراء كل نوع من 'الشهوة' التي يقدمها له العالم، من الأطعمة اللذيذة إلى الملابس الغالية والمجالس المبهجة. ولكن مع مرور الوقت، بدأ يشعر بفراغ روحي وفجوة كبيرة في داخله. في يوم من الأيام، التقى بدرويش زاهد، كان يجلس في عزلته، مشغولًا بالذكر بسلام وهدوء. سأل التاجر متعجبًا: 'يا درويش، كيف لي أن قلبي غير هادئ مع كل ما أمتلكه من ثروات وملذات، بينما أنت في فقرك وبساطتك تملك كل هذا الهدوء والسعادة؟' ابتسم الدرويش وقال: 'يا سيدي، الفرق هو أنك تسعى وراء 'الشهوة' التي ليست سوى سراب ولن تروي عطشك أبدًا. أما أنا فقد وجدت 'المحبة' الحقيقية؛ محبة للخالق وللخلق، وهي مصدر الهدوء والثراء الحقيقيين. الشهوة تقيد النفس وتجرها نحو الفناء، أما المحبة فترفع الروح وتأخذها نحو البقاء والخلود. ما تسعى إليه أنت زائل، وما وجدته أنا باقٍ. الشهوة طلب لذات النفس، أما المحبة فهي إيثار وتضحية من أجل الآخر.' تأثر التاجر بكلام الدرويش، ومنذ ذلك الحين غير مسار حياته. تعلم أن الملذات الحقيقية ليست في الإشباعات المؤقتة، بل في المحبة الصادقة وعبادة المعبود، التي تروي القلب وترفع الروح. أدرك أن الشهوة كالنار: كلما أطعمتها أكثر، اشتعلت أكثر، ولا تترك إلا الرماد. أما المحبة فكمياه عذبة: كلما شربت منها، ارتوى عطشك ووجدت السلام.