يعيد القرآن تعريف النجاح، محولاً تركيزه من الثروة والشهرة الدنيوية إلى تحقيق رضا الله، وأداء الأعمال الصالحة، ونيل الخلاص الأبدي. يؤكد هذا المنظور على القيم الروحية والأخلاقية والمسؤولية الاجتماعية بدلاً من المكاسب المادية البحتة.
القرآن الكريم، ككتاب هداية إلهية، يقدم تعريفاً عميقاً وشاملاً لـ 'النجاح' يختلف جوهرياً عن المفاهيم المادية الشائعة للنجاح في عالمنا اليوم. في الثقافة المعاصرة، غالباً ما يُربط النجاح بالإنجازات المادية مثل الثروة الهائلة، والشهرة، والقوة، والمناصب العليا، والسعي وراء الملذات الدنيوية الزائلة. يعتقد الكثيرون أن كلما زادوا من هذه المظاهر الدنيوية، كانوا أكثر نجاحاً. لكن القرآن يعلمنا أن هذا النوع من النجاح، وإن بدا جذاباً ظاهرياً، فإنه ليس مستداماً ولا يمكن أن يحقق الرضا الحقيقي والسلام الداخلي. يحول القرآن نظرتنا من نجاح دنيوي ومادي بحت إلى نجاح أكثر شمولاً واستدامة، وهو 'الفلاح' أو الخلاص، الذي يشمل خير الدنيا وخير الآخرة. المحور الأساسي للتحول في مفهوم النجاح من منظور القرآن هو إعطاء الأولوية للقيم الروحية الدائمة على القيم المادية الزائلة. النجاح الحقيقي في نظر القرآن لا يكمن في جمع الثروة أو اكتساب السلطة، بل في تحقيق رضا الله، ونقاء الروح، وأداء الأعمال الصالحة، وضمان السعادة الأخروية. في سورة المؤمنون، الآيات من 1 إلى 11، يعدد الله صفات المؤمنين المفلحين؛ أولئك الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون، والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون. هذه الآيات تبين بوضوح أن النجاح الحقيقي يكمن في الالتزام بالمبادئ الأخلاقية والروحية والعبادية، وليس مجرد الإنجازات الدنيوية. هذه الصفات تشكل أساس حياة مثمرة وذات مغزى تظهر نتائجها في كلا العالمين. بعبارة أخرى، النجاح في نظر القرآن هو عملية نمو وتسامي داخلي تقرب الإنسان من الكمال وتؤدي إلى الطمأنينة الحقيقية والسعادة الأبدية. يؤكد القرآن مراراً أن الحياة الدنيا زائلة ومؤقتة، ويجب ألا تلهي الإنسان عن الهدف الأصلي من خلقه. في سورة الكهف، الآية 46، يقول تعالى: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا". هذه الآية توضح بجلاء أن المال والبنين مجرد زينة للحياة الدنيا، أما الأعمال الصالحات الباقيات فهي أفضل عند ربك ثواباً وأفضل أملاً. هذه النظرة تحدث تحولاً جوهرياً في ترتيب الأولويات؛ حيث يصبح السعي لبناء آخرة عامرة مقدماً على مجرد جمع الثروة والسلطة في الدنيا. وبهذه الطريقة، لم يعد النجاح مقتصراً على فترة الحياة الدنيا القصيرة، بل يمتد ليشمل الأبدية، وهذا يمنح حياة الإنسان معنى وعمقاً أكبر. بالإضافة إلى ذلك، يدعو القرآن إلى التوازن والاعتدال في الحياة. يشجع المؤمنون على الاستفادة من نعم الدنيا، ولكن يجب ألا يصبحوا عبيداً لها أو ينسوا هدفهم النهائي. النجاح الحقيقي هو التوازن بين الاحتياجات المادية والروحية، بحيث تكون الماديات وسيلة للوصول إلى أهداف روحية أكبر. في سورة القصص، الآية 77، نقرأ: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ". هذه الآية تذكرنا بأنه يجب علينا أن نطلب بما آتانا الله الدار الآخرة، وألا ننسى نصيبنا من الدنيا، وأن نحسن كما أحسن الله إلينا. هذه النظرة المتوازنة لا تسمح للإنسان بالانغماس الكلي في متع الدنيا ونسيان الآخرة، ولا بالانقطاع التام عن الدنيا وحرمان نفسه من النعم الإلهية الحلال. في الختام، يحول القرآن أيضاً نظرتنا إلى النجاح من الفردية البحتة إلى المسؤولية الاجتماعية. النجاح الحقيقي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمساعدة الآخرين، وتحقيق العدالة، والسعي لإصلاح المجتمع. من يفكر في مصالحه الشخصية فقط ولا يسعى لسعادة الآخرين، حتى لو حقق إنجازات كبيرة في الدنيا ظاهراً، لا يعتبر ناجحاً حقيقياً من منظور القرآن. هذا البعد الاجتماعي للنجاح في الإسلام يساهم بشكل كبير في التضامن والتعاطف داخل المجتمع الإسلامي، ويمهد الطريق نحو مجتمع مثالي وموجه إلهياً. لذلك، يرى القرآن النجاح ليس مجرد وجهة مادية، بل رحلة روحية وأخلاقية واجتماعية مستمرة، هدفها الأسمى هو تحقيق الرضا الإلهي والسعادة الأبدية. هذا التحول الجذري يحرر الإنسان من الهموم الزائلة ويمنحه سلاماً مستقراً ومعنى أعمق في الحياة.
يُروى أنه في الأزمنة الغابرة، كان هناك تاجر يُدعى كريم، كان يسعى باستمرار لجمع الثروة وتوسيع تجارته. وكان يرى النجاح فقط في كثرة المال والجاه. كل يوم كانت ثروته تزداد ويبني بيوتًا أكبر، ولكن يبدو أنه لم يجد السلام الحقيقي أبدًا. في أحد الأيام، التقى بدرويش زاهد كان يجلس في زاوية مسجد، منهمكاً في ذكر الله بسكينة ملحوظة. فقال كريم للدرويش بغرور: "يا درويش، أنت تضيّع عمرك في البطالة، انظر إلى الثروات التي جمعتها والإنجازات التي حققتها!" أجاب الدرويش بابتسامة لطيفة: "يا كريم، النجاح الحقيقي يكمن فيما يرافقك إلى القبر، لا ما يضعك فيه. فثروة الدنيا وجاهها كالظل الذي يتغير باستمرار ويزول في النهاية. أما الإحسان ورضا الله، فهما كالنور الذي يضيء لك في الدنيا والآخرة." كانت كلمات الدرويش كالمياه على نار طمع كريم. غرق في التفكير، ولأول مرة في حياته، تأمل المعنى الحقيقي للنجاح. ومنذ ذلك اليوم فصاعدًا، لم يكتفِ كريم بمواصلة تجارته، بل خصص جزءًا كبيرًا من ثروته للأعمال الخيرية ومساعدة المحتاجين، وتفرغ للعبادة والذكر. أدرك أن السلام الذي كان يبحث عنه لسنوات لم يكن في جمع الثروة، بل في العطاء ورضا الخالق. فهم أن النجاح الحقيقي هو طمأنينة القلب ونور الآخرة، وليس مجرد ملء الجيوب وتحقيق الرغبات الفانية في هذه الدنيا.