يوضح القرآن الكريم أهمية النية من خلال مفهوم «الإخلاص» وقصد القربة الإلهية. القيمة الحقيقية للأعمال تكمن في نقاء النية والدوافع الباطنية التي يتم بها العمل، وليس فقط في مظهره الخارجي.
في تعاليم القرآن الكريم الغنية والعميقة، على الرغم من أن كلمة «النية» قد لا تُستخدم بشكل صريح ومتكرر لشرح كل عمل، إلا أن مفهومها الأساسي والجوهري، أي «الإخلاص» و«قصد القربة»، منسوج بعمق وشمولية في نسيج الآيات الإلهية. يعلمنا القرآن أن القيمة الحقيقية لأعمالنا لا تكمن فقط في مظهرها الخارجي، بل في جودة ونقاء باطننا؛ فما نكنّه في قلوبنا وبأي دافع نقوم بالفعل، هو الذي يحدد مدى قبوله ومكافأته عند الرب. يتجاوز هذا المفهوم مجرد توصية أخلاقية بسيطة، بل يشكل العمود الفقري لكل عبادة وكل عمل صالح، وبدونه، حتى أعظم الأعمال قد تصبح بلا قيمة. يؤكد القرآن مراراً وتكراراً على ضرورة «الإخلاص» في العبادات وكل عمل خير. الإخلاص يعني تطهير العمل من أي شائبة من الشرك، الرياء، التظاهر، أو طلب المديح من المخلوق، والقيام به فقط وفقط لرضا الله تعالى. في سورة البينة، الآية 5، يقول الله تعالى بوضوح: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ». هذه الآية تشير صراحة إلى أن أساس الدين والعبودية هو الإخلاص. بدون الإخلاص، حتى الصلاة والزكاة، وهما من أركان الإسلام الأساسية، قد تفقدان قيمتهما الحقيقية. هذا يوضح أن الله تعالى يهتم بما يدور في القلب أكثر مما يحدث ظاهرياً. في سورة الكهف، الآية 110، نقرأ: «فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا». هذه الآية تؤكد أيضاً على ركنين أساسيين: العمل الصالح وعدم الإشراك في عبادة الله. التأكيد على «وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا» يكشف عن عمق أهمية النية الخالصة. بعبارة أخرى، جودة العمل تعتمد على نيته. العمل الذي يتم بدافع غير إلهي، على الرغم من كونه صالحاً في الظاهر، إلا أنه بلا قيمة في الباطن. كما يعبر القرآن في سورة الحج، الآية 37، بطريقة جميلة وعميقة جداً عن أهمية النية في ذبائح الحج: «لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ». هذه الآية تعلن صراحة أن ما يهم الله ليس جسد الذبيحة أو دمها، بل روح التقوى، ونقاء النية والورع الذي يكمن وراء ذلك العمل. هذا مبدأ عام ينطبق على جميع الأعمال العبادية وحتى غير العبادية. إن أهمية النية تمتد أيضاً إلى حياتنا اليومية. كل عمل بسيط يمكن أن يتحول إلى عبادة بنية نقية. على سبيل المثال، المعلم الذي يعلم بنية تربية الجيل القادم ورضا الله، أو الطبيب الذي يعالج المرضى بنية خدمة عباد الله وكسب رضا الله، أو حتى الشخص الذي يعمل لتوفير لقمة العيش لأسرته بنية الكسب الحلال واحترام حقوق الآخرين، كل هذه الأعمال تتحول بنية نقية إلى عبادات وتُكافأ بأجر إلهي. في المقابل، العمل الذي يبدو عظيماً وصالحاً ولكنه يتم بنية الرياء أو التظاهر أو كسب الشهرة أو تحقيق مصالح دنيوية، لا قيمة له عند الله، وقد يتعرض للذم. يؤكد القرآن باستمرار على أن الله عليم بما في الصدور ويعلم ما يدور في خلوات القلوب. لذلك، فإن النية الخالصة ليست ضرورية لقبول الأعمال فحسب، بل هي أساس خلاص الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة. إن تنمية النية الخالصة والابتعاد عن الرياء والتظاهر من أهم واجبات كل مؤمن، ويتطلب ذلك تهذيب النفس والمراقبة الدائمة. يساعد هذا التهذيب الذاتي الإنسان على أن يصبغ جميع أعماله، من أصغرها إلى أكبرها، بالصبغة الإلهية ويضعها في طريق رضا الله. في الختام، يمكن القول أن النية هي روح العمل، وجسد العمل بدون روح النية الخالصة لن يكون سوى جسد بلا روح، لا قيمة له لصاحبه يوم القيامة. هذه التعاليم القرآنية هي دليلنا لبناء حياة تتقدم كل لحظة فيها، بنوايا نقية، نحو الأبدية ورضا الله.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك رجلٌ ذو قلب نقي ولكن يديه فارغتين، وكان يحمل كل يوم رغيف خبز واحد فقط بنية خالصة لفقير. لم يكن يسعى للمدح ولا يفعل ذلك من أجل الشهرة. وفي نفس المدينة، كان تاجر ثري يقيم ولائم فاخرة كل أسبوع، ويطعم مئات الضيوف، لكن نيته كانت أساساً لجذب الانتباه والتفاخر. في أحد الأيام، سُئل الشيخ سعدي: «أيهما أحب إلى الله؟» فأجاب الشيخ: «قطرة المطر النقية التي تسقط على الأرض الجافة خير من سيل يدمر البيوت. فالله ينظر إلى القلوب، لا إلى الحجم الظاهري للأعمال. فالنية النقية لذلك الرجل الفقير، في حضرة الله، لها قدر ومكانة أكبر من جميع ولائم التاجر، لأن عمله نبع من ينبوع الإخلاص.»